- الرئيسية
- الأخبار
- أخبار الاقتصاد العالمي
- موديز تخفض التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة : ضغوط مالية متفاقمة ومخاطر ديون متزايدة
موديز تخفض التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة : ضغوط مالية متفاقمة ومخاطر ديون متزايدة

في خطوة مفصلية تعكس التحديات العميقة التي تواجهها الولايات المتحدة على صعيد ماليتها العامة، خفّضت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني التصنيف السيادي طويل الأجل للولايات المتحدة الأميركية من الدرجة الأعلى "Aaa" إلى "Aa1"، في أول إجراء من نوعه للوكالة منذ عقود.
وجاء هذا القرار مدفوعًا بتفاقم العجز المالي، والتضخم في حجم الدين العام، وتزايد مدفوعات الفائدة بشكل غير مسبوق، مع نظرة مستقبلية تحوّلت من سلبية إلى مستقرة، في ظل استمرار بعض عناصر القوة المؤسساتية والاقتصادية للولايات المتحدة.
تفاصيل قرار وكالة موديز وخلفياته المالية
أعلنت وكالة "موديز"، إحدى أهم وكالات التصنيف الائتماني العالمية، في بيان رسمي صدر يوم الجمعة، عن تخفيض التصنيف الائتماني طويل الأجل للولايات المتحدة من "Aaa"، وهو التصنيف الأعلى المتاح في منهجيتها، إلى "Aa1"، في خطوة تعكس ما وصفته بـ"التدهور المستمر في المقاييس المالية الأمريكية الأساسية، لا سيما مستويات الدين العام والعجز".
ويشمل التخفيض تصنيف المُصدر طويل الأجل، إضافة إلى الديون الممتازة غير المضمونة التي تصدرها الحكومة الفيدرالية الأمريكية، وهو ما يعني أن قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها المالية المستقبلية لم تعد تتمتع بالمستوى الأعلى من الثقة كما في السابق.
وقد استندت موديز في قرارها إلى تراكمات مالية استمرت لعقود، لكنها تفاقمت بشكل لافت في السنوات الأخيرة مع تعقيدات السياسة النقدية وارتفاع أسعار الفائدة، في وقت فشلت فيه الحكومات المتعاقبة في تطبيق استراتيجيات فعالة لضبط الدين وتقليص العجز.
التبريرات الرسمية لخفض التصنيف
جاء في بيان موديز:
"يعكس هذا التخفيض في تصنيفنا الممتد على 21 درجة، الواقع الجديد الذي يتمثل في التراكم المتواصل للدين الحكومي وزيادة نسب مدفوعات الفائدة، والتي بلغت مستويات غير مسبوقة تفوق بكثير تلك التي تسجلها دول أخرى ذات تصنيف مماثل."
هذه العوامل، وفقًا لموديز، لم تعد مجرد مؤشرات مالية تقليدية، بل تحولت إلى مصادر تهديد هيكلية لاستدامة المالية العامة الأمريكية فمدفوعات الفائدة، على سبيل المثال، التي كانت تشكل نسبة صغيرة من الإيرادات الفيدرالية قبل عقد من الزمن، بدأت تتجاوز تدريجيًا مستويات الإنفاق على برامج جوهرية، مما يزيد من هشاشة الوضع المالي العام.
الانتقادات لسياسات الحكومات الأمريكية المتعاقبة
في نبرة غير معتادة، وجّهت وكالة موديز نقدًا لاذعًا إلى صناع القرار في الولايات المتحدة، حيث حمّلت مسؤولية التدهور المالي الحالي إلى فشل السياسات المالية المتراكمة، وعدم التوافق السياسي داخل أروقة الكونغرس الأمريكي، بما في ذلك عدم القدرة على الاتفاق على خطط متوسطة أو طويلة الأجل لكبح جماح العجز وقالت الوكالة نصًا:
"فشلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، والكونغرس الأمريكي، في الاتفاق على تدابير حقيقية لعكس الاتجاه التصاعدي للعجز المالي السنوي، ووقف نمو تكاليف الفائدة. وحتى في ظل المقترحات المالية الحالية، لا نتوقع تخفيضات جوهرية متعددة السنوات في الإنفاق الإلزامي والعجز."
ويعكس هذا التصريح مخاوف حقيقية من غياب الرؤية الاستراتيجية طويلة المدى لمعالجة جذور المشكلة، في ظل غلبة المواقف الحزبية قصيرة الأجل على حساب الحلول الجذرية.
أرقام صادمة للعجز والدين العام
من منظور رقمي، بلغ العجز المالي في الولايات المتحدة منذ بداية عام 2024 ما يزيد عن 1.05 تريليون دولار، بزيادة قدرها 13% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وعلى الرغم من أن ارتفاع الرسوم الجمركية ساهم في دعم الإيرادات في شهر سابق، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لتغيير المسار العام للعجز.
وفي رؤيتها المستقبلية، تتوقع موديز تفاقم الوضع، حيث أشارت إلى ما يلي:
-
العجز الفيدرالي سيبلغ نحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، مقارنة بـ 6.4% في عام 2024.
-
الدين العام سيرتفع ليصل إلى 134% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، وهو مستوى خطير يعكس اعتمادًا مفرطًا على الاقتراض.
-
مدفوعات الفائدة قد تستهلك ما يصل إلى 30% من الإيرادات الفيدرالية بحلول 2035، ما يمثل تضاعفًا ثلاثيًا مقارنة بعام 2021، حين كانت النسبة نحو 10%.
تشير هذه الأرقام إلى أن الولايات المتحدة تتجه نحو وضع مالي غير مستدام ما لم تُتخذ إجراءات تصحيحية جذرية.
مقارنة مع وكالات التصنيف الأخرى
قرار موديز يجعلها آخر وكالات التصنيف الائتماني الكبرى التي تتخذ قرارًا مماثلًا تجاه الولايات المتحدة. وكان قد سبقها كل من:
-
ستاندرد آند بورز (S&P)، التي خفضت التصنيف من "AAA" إلى "AA+" في أغسطس 2011، في أعقاب أزمة سقف الدين آنذاك.
-
فيتش (Fitch)، التي خفضت التصنيف من "AAA" إلى "AA+" في أغسطس 2023، مستندة إلى توقعات سلبية حيال الدين والإنفاق.
وبهذا تكون الولايات المتحدة قد فقدت أعلى تصنيف ممكن من كافة الوكالات الثلاث، للمرة الأولى في تاريخها الحديث، ما يشير إلى إجماع مؤسساتي عالمي على وجود خلل حقيقي في توازناتها المالية.
نقاط القوة التي حالت دون تخفيض أعمق
رغم قرار التخفيض، حرصت وكالة موديز على التأكيد بأن تصنيف "Aa1" لا يعني فقدان الثقة الكامل بالقدرة المالية الأمريكية، حيث أشارت إلى وجود عوامل داعمة، أهمها:
-
حجم الاقتصاد الأمريكي، الذي يُعد الأكبر عالميًا ويتميز بمرونة عالية.
-
الدور المركزي للدولار الأمريكي كعملة احتياطية رئيسية في النظام المالي العالمي.
-
قوة المؤسسات مثل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي ما يزال يُنظر إليه كمؤسسة ذات كفاءة في إدارة السياسة النقدية.
وأوضحت الوكالة أن هذه العوامل تساهم في الحد من خطر التعرض لأزمات تمويلية حادة في المدى القصير، في ظل استمرار الطلب القوي من المستثمرين العالميين على سندات الخزانة الأمريكية.
شروط الترقية المحتملة مستقبلاً
أشارت موديز إلى أن إعادة النظر في التصنيف والترقية إلى "Aaa" من جديد لن تكون ممكنة ما لم تُنفذ "إصلاحات مالية واسعة النطاق" تشمل:
-
تخفيضات جوهرية ومستمرة في الإنفاق الإلزامي.
-
خطة محكمة لخفض العجز تدريجيًا إلى مستويات مستدامة.
-
ضمان السيطرة على مستوى الدين العام بشكل لا يهدد الاستقرار المالي.
وأكدت موديز أن هذه الشروط لا تزال بعيدة عن التحقق في ظل الانقسام السياسي الحالي والمخاطر المتزايدة في إدارة المالية العامة.
الخلفية السياسية
يتزامن هذا التخفيض مع توترات سياسية داخلية متزايدة، إذ رفضت لجنة الميزانية في مجلس النواب الأمريكي، التي يسيطر عليها الحزب الجمهوري، يوم الجمعة نفسه، حزمة تشريعية كبيرة ضمن أجندة الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي تتضمن تمديد التخفيضات الضريبية التي تم إقرارها في عام 2017.
هذا الرفض السياسي يؤكد على الانقسام الحاد بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، ويقوّض قدرة الحكومة على تمرير حزم إصلاحية واسعة، وهو ما يزيد من المخاوف حول جدوى السياسات المالية المستقبلية.
خاتمة تحليلية: التصنيف الجديد بين الواقع المالي والرمزية السياسية
إن خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من قبل وكالة موديز، بعد سابقتيها ستاندرد آند بورز وفيتش، يُعد بمثابة إشارة تحذير قوية ليس فقط للأسواق المالية، بل أيضًا لصناع القرار السياسي في واشنطن.
ففي الوقت الذي ما تزال فيه الولايات المتحدة تحتفظ بقدر كبير من القوة الاقتصادية والمؤسسية، إلا أن تجاهل التحديات المالية الهيكلية قد يقود إلى نتائج كارثية على المدى الطويل، بما في ذلك تراجع مكانة الدولار عالميًا، وارتفاع كلفة الدين، وضعف الثقة بسياسات الدولة المالية وبالتالي، فإن الرسالة واضحة: الإصلاح المالي لم يعد خيارًا، بل ضرورة ملحة.