أسعار الذهب ترتفع بقوة مدفوعة بتصاعد التوترات في الشرق الأوسط وتراجع التضخم الأميركي

شهدت أسعار الذهب قفزة ملحوظة اليوم الخميس في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك على خلفية إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطط لإجلاء الأميركيين من المنطقة تحسبًا لتطورات أمنية محتملة، وتزامن ذلك مع بيانات تضخم أميركية ضعيفة عززت من رهانات الأسواق على اتجاه الاحتياطي الفيدرالي لتيسير سياسته النقدية.

وقد دعمت هذه العوامل مجتمعة الطلب على الذهب كأصل ملاذ آمن، وهو ما ترجمته الأسواق بارتفاع حاد في الأسعار الفورية والعقود الآجلة.

وفي تطور لافت، تجاوز الذهب اليورو ليصبح ثاني أكبر أصل احتياطي عالميًا بعد الدولار، وسط تحول استراتيجي للبنوك المركزية في ظل تغييرات جذرية في البيئة المالية العالمية. في هذا التقرير نستعرض بالتفصيل هذه التطورات، وتحليل أسبابها وتداعياتها على الأسواق.

التوترات الجيوسياسية تحفز الإقبال على الملاذات الآمنة

سجل الذهب اليوم الخميس ارتفاعًا لافتًا في الأسعار، حيث عاود المستثمرون التوجه نحو أصول الملاذ الآمن في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. وأتى ذلك عقب تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي أثارت قلقًا واسعًا في الأسواق، إذ أعلن عزمه إجلاء المواطنين الأميركيين من الشرق الأوسط تحسبًا لأي مخاطر أمنية محتملة.

هذه التصريحات عكست مؤشرات واضحة على تصعيد محتمل في الوضع الإقليمي المتأزم أصلًا بين الولايات المتحدة وإيران.

أداء أسعار الذهب اليوم

ارتفعت أسعار الذهب في المعاملات الآجلة بأكثر من 1.4%، بالتزامن مع إعلان إسرائيل عن جاهزيتها لخوض مواجهة عسكرية مع إيران، مما أضاف المزيد من المخاوف حول استقرار المنطقة. وبلغت العقود الآجلة للذهب عند الساعة 09:40 صباحًا بتوقيت تركيا مستوى 3,393 دولارًا للأوقية، محققة ارتفاعًا بنسبة 1.48%.

أما الذهب الفوري، فسجل سعر 3,371 دولارًا للأوقية، بارتفاع قدره 0.50%، مما يعكس حالة القلق المتزايد بين المستثمرين الذين يتوجهون نحو الذهب لحماية رؤوس أموالهم في ظل الضبابية العالمية.

بيانات التضخم الأميركية تضيف زخمًا لصعود الذهب

عززت البيانات الاقتصادية الأميركية الأخيرة الاتجاه الصاعد للذهب، حيث أظهرت بيانات شهر مايو/أيار أن مؤشر أسعار المستهلكين ارتفع بنسبة 0.1% فقط، وهي نسبة جاءت أقل من التوقعات التي كانت تشير إلى ارتفاع بنسبة 0.2%. هذا التباطؤ في التضخم ساهم في تعزيز التوقعات بأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي قد يضطر إلى خفض أسعار الفائدة في اجتماعاته المقبلة.

ويُتوقع الآن أن يقوم الفيدرالي بخفض الفائدة بواقع 50 نقطة أساس بحلول نهاية العام، وهو ما يدفع المستثمرين للتحوط من تراجع العوائد عبر زيادة حيازتهم للذهب.

وفي إطار الترقب، تنتظر الأسواق صدور بيانات مؤشر أسعار المنتجين الأميركيين في وقت لاحق اليوم عند الساعة 12:30 بتوقيت غرينتش، للحصول على مزيد من المؤشرات حول مسار السياسة النقدية قبل اجتماع الاحتياطي الفيدرالي المنتظر يومي 17 و18 يونيو/حزيران.

التوتر التجاري يعود إلى الواجهة: ترامب يلوّح بتعديل الرسوم الجمركية

وفي تطور اقتصادي-سياسي متصل، أعلن الرئيس دونالد ترامب مساء الأربعاء أنه يعتزم خلال الأسبوعين المقبلين تحديد معدلات التعريفات الجمركية التي فرضها على العديد من الشركاء التجاريين، مع اقتراب الموعد النهائي في 9 يوليو/تموز لإبرام صفقات تجارية جديدة.

وقال ترامب إنه سيُرسل رسائل إلى الشركاء التجاريين الرئيسيين يوضح فيها شروطه للصفقات المقبلة، مؤكدًا أن أمامهم خيار القبول أو الرفض، في إشارة إلى أنه ماضٍ في سياساته الحمائية التجارية.

وأشار الرئيس الأميركي إلى أنه لا يرى ضرورة لتمديد الموعد النهائي، على الرغم من أنه اعتاد في السابق تمديد المهلات المتعلقة بالتجارة. وجاء هذا الإعلان بعد تصريحاته حول قرب التوصل إلى اتفاق مع الصين، والذي أشار إلى أنه "تم فعليًا" ويحتاج فقط إلى موافقة الرئيس الصيني شي جين بينغ، في حين أن التعريفات الحالية على الواردات الصينية لا تزال قائمة.

كما أيدت محكمة استئناف أميركية مؤخرًا قرارات ترامب بشأن فرض رسوم جمركية جديدة، مما منح البيت الأبيض اليد الطولى في هذا الملف على الأقل مؤقتًا، إلى حين مراجعة قرار سابق من محكمة تجارية حاولت تعطيل هذه الإجراءات.

تصعيد جديد في الملف الإيراني: قلق أميركي وتحذيرات إيرانية

ساهم ارتفاع أسعار الذهب يوم الأربعاء في عكس تصاعد القلق بشأن الملف النووي الإيراني، حيث أمرت واشنطن بإجلاء أفراد من القوات الأميركية والمعالين من البحرين والكويت كإجراء احترازي في ظل مخاوف من رد فعل انتقامي محتمل من إيران.

من جهته، صرح ترامب أنه أصبح "أقل ثقة" في إمكانية التوصل إلى اتفاق دبلوماسي نووي مع إيران، مما خفض من سقف التوقعات بإمكانية إيجاد حل سلمي للأزمة. في المقابل، هدد وزير الدفاع الإيراني بأن طهران سترد بقوة وستستهدف القواعد الأميركية في المنطقة في حال تعرضت لأي هجوم .

وهو ما أدى إلى تعزيز علاوة المخاطر الجيوسياسية ليس فقط على الذهب، بل وعلى النفط الخام أيضًا، إذ يخشى المستثمرون من أن يؤدي أي صراع مفتوح إلى تعطيل سلاسل الإمداد والبنية التحتية النفطية في منطقة الخليج.

الذهب يتجاوز اليورو كأصل احتياطي عالمي رئيسي

في تطور لافت يعكس التحول في النظرة العالمية للذهب، كشف البنك المركزي الأوروبي في تقييم سنوي أن الذهب قد تجاوز اليورو ليصبح ثاني أكبر أصل احتياطي عالميًا بعد الدولار.

فقد بلغت حصة الذهب من الاحتياطيات الأجنبية العالمية، وفقًا للأسعار السوقية، نحو 20% بنهاية عام 2024، مقارنة بـ 16% فقط لليورو، في حين تراجعت حصة الدولار الأميركي إلى 46%.

وجاء هذا التحول نتيجة زيادة كبيرة في مشتريات البنوك المركزية من الذهب، والتي تجاوزت 1000 طن سنويًا منذ عام 2022، وهو ضعف وتيرة الشراء السابقة. وعادت بذلك حيازات الذهب في البنوك المركزية إلى مستويات لم تُسجل منذ سبعينات القرن الماضي.

وقد ساهمت العقوبات الغربية على روسيا، والتي شملت تجميد احتياطياتها من العملات الأجنبية المحتفظ بها في عملات مجموعة السبع، في دفع البنوك المركزية لتقليل تعرضها للنظام المالي الغربي، وزيادة اعتمادها على الذهب كأصل غير مرتبط بالسياسة. كما أشار تقرير المركزي الأوروبي إلى أن العلاقة التقليدية بين الذهب والعوائد الحقيقية انهارت منذ عام 2022، مع اتجاه المؤسسات السيادية لشراء الذهب رغم ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا.

وكتب خبراء المركزي الأوروبي أن "الدول المتقاربة جيوسياسيًا مع الصين وروسيا شهدت زيادة ملحوظة في حصة الذهب من احتياطياتها الأجنبية الرسمية منذ نهاية عام 2021".

أداء المعادن النفيسة الأخرى

بالتزامن مع صعود الذهب، سجلت أسعار الفضة في المعاملات الفورية ارتفاعًا بنسبة 0.38% إلى مستوى 36.40 دولارًا للأونصة، كما ارتفع البلاتين بنسبة 0.45% ليبلغ 1,247 دولارًا، مستمرًا في التحرك بالقرب من أعلى مستوى له منذ أكثر من أربع سنوات.

في المقابل، انخفض البلاديوم بنسبة 1% إلى 1,069.65 دولارًا للأونصة، وسط عمليات جني أرباح بعد مكاسب سابقة.

غولدمان ساكس يتوقع تراجع البلاتين بعد صعوده الحاد

أشار تقرير حديث صادر عن محللي بنك غولدمان ساكس إلى أن أسعار البلاتين، ورغم ارتفاعها بنسبة 37.3% منذ بداية عام 2025، إلا أنه من المرجح أن تعود إلى نطاق تداولها التاريخي الذي تراوح ما بين 800 إلى 1150 دولارًا للأونصة خلال العقد الماضي.

وأوضح التقرير أن هذا الارتفاع مدفوع بتفاؤل صناعي مؤقت وتوقعات بشح الإمدادات، لكنه مرشح للانخفاض مع تباطؤ الطلب الصيني، خاصة في سوق مجوهرات البلاتين، والذي بدأ يتراجع منذ أبريل الماضي مع ارتفاع الأسعار.

كما أشار التقرير إلى أن الطلب على البلاتين في صناعة السيارات قد يتراجع بسبب التحول نحو السيارات الكهربائية، والتي لا تحتاج إلى مكونات البلاتين الخاصة بأنظمة التحكم في الانبعاثات.

وفي المقابل، يُتوقع أن تظل الإمدادات من جنوب أفريقيا، التي تنتج حوالي 70% من البلاتين العالمي، قوية نسبيًا هذا العام، مما يُبقي الأسعار تحت الضغط مع استقرار العرض العالمي.

خاتمة: الذهب يعود إلى الواجهة بقوة في مشهد عالمي مضطرب

في ظل التوترات الجيوسياسية، وتزايد المخاوف بشأن استقرار النظام المالي العالمي، وتراجع التضخم في الولايات المتحدة، يجد الذهب نفسه مجددًا في موقع الصدارة كأصل ملاذ آمن وأداة احتياط استراتيجية.

ومع عودة البنوك المركزية لتخزينه بوتيرة غير مسبوقة، وتصاعد الصراع في الشرق الأوسط، تبدو أسواق المعادن النفيسة على موعد مع مرحلة جديدة من التحولات التاريخية في أنماط الاستثمار وخرائط النفوذ المالي العالمي.