تراجع أسعار الذهب من مستوياتها القياسية وسط تفاؤل تجاري وتراجع الطلب على الملاذات الآمنة

شهدت أسعار الذهب تراجعاً ملحوظاً خلال تعاملات اليوم الثلاثاء بعد سلسلة ارتفاعات متتالية أوصلته إلى مستويات قياسية غير مسبوقة. ويأتي هذا التراجع في وقتٍ تشهد فيه الأسواق حالة من التفاؤل بشأن انفراج محتمل في التوترات التجارية العالمية بين الولايات المتحدة والصين، إلى جانب مؤشرات على قرب انتهاء الإغلاق الحكومي الأميركي.

وفي ظل انحسار المخاوف السياسية والاقتصادية العالمية، بدأ المستثمرون بعمليات جني أرباح بعد موجة صعود قوية استمرت لأسابيع، فيما تحوّل الاهتمام مجدداً إلى بيانات التضخم الأميركية المنتظرة، والتي قد تحدد المسار القادم للسياسة النقدية الأميركية وأسعار الفائدة، وبالتالي اتجاه الذهب خلال الفترة المقبلة.

أداء الذهب اليوم

تراجعت أسعار الذهب الفوري بنسبة 2.09% لتصل إلى 4,266 دولاراً للأوقية بحلول الساعة 11:33 صباحاً بتوقيت تركيا، منخفضةً عن المستوى القياسي البالغ 4,381.21 دولاراً للأوقية الذي سجله يوم الإثنين.

وجاء هذا التراجع وسط عمليات جني أرباح من قبل المستثمرين الذين فضلوا تثبيت مكاسبهم بعد موجة صعود مستمرة منذ أكثر من أسبوع. كما أن المؤشرات الفنية، خصوصاً مؤشر القوة النسبية (RSI)، بدأت تشير إلى أن الزخم الشرائي قد تجاوز حدّه الطبيعي، ما دفع الأسواق إلى تصحيح سعري مؤقت.

إلى جانب ذلك، ساهم ارتفاع الدولار الأميركي منذ بداية الأسبوع في تقليص شهية المستثمرين للمعادن النفيسة، إذ أدى صعود العملة الخضراء إلى زيادة تكلفة شراء الذهب بالنسبة للمستثمرين من حاملي العملات الأخرى.

تفاؤل تجاري يخفف الطلب على الملاذات الآمنة

انخفضت أسعار الذهب أيضاً بفعل الأجواء الإيجابية التي سادت الأسواق العالمية، بعد تصريحات للرئيس الأميركي دونالد ترامب عبّر فيها عن ثقته في التوصل إلى اتفاق "قوي وعادل" مع الصين، مؤكداً أن الولايات المتحدة "ستكون بخير" حتى في حال تعثرت المفاوضات.

ومن المقرر أن يلتقي ترامب نظيره الصيني شي جين بينغ الأسبوع المقبل في قمة مرتقبة بكوريا الجنوبية، وسط آمال بأن تثمر المحادثات عن خطوات ملموسة نحو خفض الرسوم الجمركية واستعادة الاستقرار التجاري العالمي.

لكن في المقابل، لم يخلُ المشهد من الحذر، إذ جدّد ترامب تهديده بفرض رسوم إضافية بنسبة 100% على البضائع الصينية إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق قبل الأول من نوفمبر، ما يبقي حالة الترقب حاضرة في الأسواق.

على الصعيد الداخلي في الولايات المتحدة، ساهمت تصريحات كيفن هاسيت، مدير المجلس الاقتصادي الوطني، في تعزيز التفاؤل بعد أن أشار إلى احتمال انتهاء الإغلاق الحكومي الطويل هذا الأسبوع.

ورأى مراقبون أن أي اتفاق محتمل لتمويل الحكومة الأميركية سيخفف الضغوط السياسية ويعيد الثقة إلى الأسواق، وهو ما انعكس مباشرة على تراجع الطلب على الذهب كملاذ آمن.

عام استثنائي للذهب والمعادن الثمينة

رغم التراجع الأخير، يبقى عام 2025 من أكثر الأعوام تميزاً للذهب والمعادن النفيسة. فقد حقق الذهب تسعة أسابيع متتالية من المكاسب، وقفزت أسعاره بأكثر من 65% منذ بداية العام، مدعوماً بموجة شراء واسعة من البنوك المركزية حول العالم، إضافة إلى تدفقات ضخمة من صناديق المؤشرات المتداولة (ETFs).

ويرى محللون أن هذا الارتفاع يعكس مزيجاً من العوامل، أبرزها التوترات الجيوسياسية، وارتفاع مستويات الدين العام، وتزايد المخاوف بشأن استقلالية الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، إلى جانب ضعف الثقة في الأصول التقليدية.

أما الفضة فقد تفوقت على الذهب من حيث الأداء، إذ ارتفعت أسعارها بأكثر من 80% خلال العام الحالي، مستفيدةً من نفس العوامل التي دعمت الذهب، بالإضافة إلى نقص تاريخي في الإمدادات ضمن سوق لندن، ما ساهم في رفع الأسعار العالمية بشكل غير مسبوق.

تقلص الفجوة بين أسواق لندن ونيويورك

تشهد أسواق المعادن الثمينة تبايناً لافتاً بين مراكز التداول الرئيسية في لندن ونيويورك. فأسعار الفضة المرجعية في لندن ما تزال تتداول عند مستويات أعلى من العقود الآجلة الأميركية، ما دفع المتعاملين إلى شحن كميات كبيرة من المعدن إلى العاصمة البريطانية لتخفيف شح المعروض.

ورغم أن الفجوة السعرية بين السوقين تقلصت إلى نحو دولار واحد للأونصة، فإنها تبقى كبيرة مقارنة بالأسابيع الماضية، حين بلغ الفارق 3 دولارات، ما يعكس استمرار اضطرابات العرض والطلب في سوق المعادن العالمية.

ترقب بيانات التضخم الأميركية

ينتظر المستثمرون حالياً صدور بيانات مؤشر أسعار المستهلك الأميركي (CPI) المقرر إعلانها يوم الجمعة، والتي من المتوقع أن تُظهر ارتفاعاً في معدل التضخم إلى نحو 3.1% على أساس سنوي.
وتكتسب هذه البيانات أهمية بالغة لأنها قد تحدد ما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي سيمضي قدماً في خفض أسعار الفائدة خلال اجتماعه في أكتوبر.

وفي حال جاءت الأرقام أعلى من التوقعات، فقد تتراجع التوقعات بخفض الفائدة، ما سيزيد الضغط على أسعار الذهب مؤقتاً. أما إذا أظهرت البيانات تباطؤاً في التضخم، فقد يعزز ذلك الرهانات على سياسة نقدية أكثر تيسيراً، مما سيعيد الزخم الصعودي للذهب.

الدولار القوي يضغط على المعادن الصناعية والنفيسة

لم يكن الذهب وحده المتأثر بصعود الدولار، إذ شهدت بقية المعادن تراجعاً متزامناً خلال تعاملات اليوم الثلاثاء. فقد انخفضت عقود الفضة بنسبة 1.5% إلى 50.68 دولاراً للأوقية، وتراجعت عقود البلاتين بنسبة 1.1% إلى 1,633.60 دولاراً للأوقية.

كما شهدت أسواق النحاس تراجعاً طفيفاً، إذ انخفضت العقود القياسية في بورصة لندن بنسبة 0.2% إلى 10,666.20 دولاراً للطن، فيما هبطت العقود الأميركية بنسبة 1% إلى 5.00 دولارات للرطل.

ويعزو المحللون هذا التراجع العام في المعادن إلى تعزز الدولار الأميركي، والذي جعل السلع المقومة بالدولار أكثر تكلفة للمستثمرين الأجانب، بالإضافة إلى تراجع المخاوف الاقتصادية التي كانت تدعم الطلب على الأصول الدفاعية.

التحليل الفني لأسعار الذهب والفضة

1. التحليل الفني للذهب (XAU/USD)

• الاتجاه العام: ما يزال الاتجاه الصاعد مسيطراً على المدى المتوسط، رغم التصحيح الحالي.

• مؤشر القوة النسبية (RSI): يسجل حالياً قراءة عند 67 نقطة بعد أن تجاوز سابقاً مستوى 80، ما يشير إلى تخفيف حالة التشبع الشرائي، ولكن دون تحول إلى تشبع بيعي بعد.

• مؤشر MACD: يظهر بداية تقاطع هبوطي طفيف بين المتوسطات، ما يعزز احتمال استمرار التصحيح نحو الأسفل على المدى القصير.

• المتوسطات المتحركة: السعر ما يزال فوق المتوسط المتحرك لـ50 يوماً (4,120 دولاراً) والمتوسط لـ200 يوم (3,760 دولاراً)، ما يؤكد بقاء الاتجاه العام صاعداً.

مستويات الدعم والمقاومة المحتملة:

• الدعم الأول: 4,220 دولاراً للأوقية

• الدعم الثاني: 4,120 دولاراً للأوقية

• المقاومة الأولى: 4,340 دولاراً للأوقية

• المقاومة الثانية: 4,380 دولاراً للأوقية (الذروة التاريخية الأخيرة)

في حال اختراق المقاومة العليا، قد يعاود الذهب تسجيل قمم جديدة قرب 4,450 – 4,500 دولار، بينما كسر الدعم 4,120 قد يفتح الطريق لتصحيح أعمق نحو 4,000 دولار.

2. التحليل الفني للفضة (XAG/USD)

• الاتجاه العام: الفضة تحافظ على زخم صاعد قوي، لكنها تواجه مقاومة عنيفة عند مستويات 51 دولاراً للأوقية.

• مؤشر RSI: يتداول حالياً عند 71 نقطة، مما يشير إلى بقاء الزخم الشرائي قويّاً، مع احتمال تصحيح محدود قريب المدى.

• مؤشر MACD: لا يزال في نطاق إيجابي، مع اتساع الفجوة بين خطي المؤشر، ما يعكس استمرار الاتجاه الصعودي على المدى المتوسط.

• المتوسطات المتحركة: السعر يستقر أعلى المتوسط المتحرك لـ50 يوماً عند 48.60 دولاراً، ما يدعم استمرار الاتجاه الصاعد.

مستويات الدعم والمقاومة المحتملة:

• الدعم الأول: 49.80 دولاراً للأوقية

• الدعم الثاني: 48.50 دولاراً للأوقية

• المقاومة الأولى: 51.20 دولاراً للأوقية

• المقاومة الثانية: 52.70 دولاراً للأوقية

في حال تجاوز الفضة حاجز 52.70 دولاراً، فقد نشهد اندفاعة جديدة نحو 55 دولاراً للأوقية، مدفوعة بتراجع المعروض واستمرار الطلب الصناعي والمالي المرتفع.

خلاصة تحليلية وتوقعات مستقبلية

رغم التراجع الحالي في أسعار الذهب، يرى الخبراء أن المعدن النفيس لا يزال يتمتع بدعم قوي من العوامل الأساسية، وعلى رأسها تزايد مشتريات البنوك المركزية، واستمرار حالة عدم اليقين الجيوسياسي، واحتمالات خفض الفائدة الأميركية في الأشهر القادمة.

ومن المرجح أن يبقى الذهب متقلباً في المدى القصير تبعاً لتطورات محادثات التجارة الأميركية الصينية، ونتائج بيانات التضخم الأميركية، وتحركات الدولار. إلا أن الاتجاه العام على المدى المتوسط والطويل ما يزال يميل إلى الصعود، ما يجعل الذهب يحتفظ بمكانته كملاذ آمن في أوقات الاضطراب المالي والسياسي.