ارتفاع اليوان الصيني وسط ترقب للسياسة النقدية الأمريكية وانعكاساتها على أسواق العملات
شهدت الأسواق المالية العالمية يوم الاثنين بداية أسبوع حافلة بالتقلبات، حيث ارتفع اليوان الصيني بشكل طفيف مقابل الدولار الأميركي، في وقت يترقب فيه المستثمرون ما ستسفر عنه ندوة «جاكسون هول» التي ينظمها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سنوياً.
وتكتسب هذه الندوة أهمية استثنائية كونها توفر إشارات مباشرة حول توجهات السياسة النقدية الأميركية، وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على أسواق العملات العالمية، بما في ذلك اليوان.
في الوقت ذاته، أظهرت بيانات حديثة أن الصين سجّلت في يوليو خروجاً قياسياً لرؤوس الأموال إلى الخارج، مدفوعاً بالتحولات التنظيمية وتوسيع برامج تحرير السوق. هذا المشهد يضع الاقتصاد الصيني أمام معادلة دقيقة: بين السعي لتثبيت استقرار العملة الوطنية في مواجهة الضغوط الخارجية، وبين الاستمرار في مسار تدويل اليوان والانفتاح التدريجي على حركة رؤوس الأموال.
الأداء اللحظي لليوان أمام الدولار
بحلول الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش، ارتفع اليوان في السوق الداخلية بنسبة 0.03% ليسجل 7.1808 للدولار. أما في السوق الخارجية، فقد ارتفع بنحو 0.1% إلى 7.1830 خلال التداولات الآسيوية.
وتجدر الإشارة إلى أن السوق الداخلية (Onshore) تتميز برقابة أكبر من قبل السلطات الصينية، بينما السوق الخارجية (Offshore) تعكس إلى حد كبير قوى العرض والطلب العالمية، ما يجعل الفجوة بينهما مؤشراً حساساً على التدخلات والسياسات النقدية.
توجيه بنك الشعب الصيني لسعر الصرف
قبل افتتاح السوق، أعلن بنك الشعب الصيني (PBoC) تحديد سعر منتصف التداول اليومي عند 7.1322 للدولار، وهو المستوى الأقوى منذ 6 نوفمبر 2024، وجاء أقوى من توقعات وكالة رويترز عند 7.1793 بفارق 471 نقطة أساس.
ويُسمح لليوان بالتداول ضمن نطاق ±2% حول هذا السعر المرجعي يومياً. ويعتبر هذا النظام أداة مركزية يعتمد عليها البنك لضبط التذبذبات الحادة والحد من المضاربات، وفي الوقت نفسه إيصال رسائل للأسواق عن نوايا السياسة النقدية الصينية.
اللافت أن هذا التوجيه الأقوى من المتوقع يعكس رغبة السلطات النقدية في بكين في منع تراجع اليوان بشكل مفرط، خصوصاً في ظل تقلبات الأسواق العالمية وتوقعات خفض الفائدة الأميركية.
العلاقة بين اليوان والدولار: ترقب قرارات الفيدرالي
تُظهر البيانات أن حركة اليوان في الأسابيع الأخيرة ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بتحركات الدولار الأميركي، وهو أمر منطقي بالنظر إلى المكانة المركزية للدولار في التجارة والتمويل العالميين.
المستثمرون يترقبون حالياً تصريحات رئيس الفيدرالي الأميركي جيروم باول خلال اجتماع جاكسون هول، إذ يُتوقع أن يقدم إشارات حاسمة بشأن مستقبل أسعار الفائدة.
احتمالات خفض الفائدة
-
حالياً، تُسعّر الأسواق احتمالاً بنسبة 84% لخفض الفائدة الأميركية بمقدار 25 نقطة أساس في سبتمبر.
-
انخفضت هذه النسبة من 98% في الأسبوع الماضي بعد صدور بيانات قوية في الولايات المتحدة، أبرزها:
-
قفزة في أسعار الجملة (مؤشر أسعار المنتجين)، ما يعكس استمرار الضغوط التضخمية.
-
زيادة قوية في مبيعات التجزئة، ما يشير إلى قوة إنفاق المستهلكين.
-
هذه المعطيات قلّلت من توقعات خفض أكبر بمقدار 50 نقطة أساس، إذ يرى الفيدرالي أن التضخم لم يُهزم بعد، وبالتالي لن يغامر بخفض مفرط قد يعيد إشعال الضغوط السعرية.
تأثير محتمل على اليوان
أي خفض للفائدة الأميركية سيؤدي إلى تراجع الدولار، وبالتالي منح متنفس للعملات الأخرى وعلى رأسها اليوان. والعكس صحيح: إذا تراجع احتمال الخفض، فإن الدولار قد يستعيد قوته، مما يضع ضغوطاً على اليوان.
موقف بنك الشعب الصيني: استقرار مدروس للعملة
قال الخبير الاقتصادي في بنك «غولدمان ساكس» شينكوان تشين إن توجيه بنك الشعب الصيني لسعر صرف أقوى من المتوقع هو إشارة واضحة إلى التزامه باستقرار العملة، مشيراً إلى أن البنك المركزي يسعى لتفادي أي تقلبات حادة قد تضر بثقة المستثمرين المحليين والأجانب.
وأضاف أن البنك قد يتبنى استراتيجية «التقدير التدريجي» لسعر اليوان عبر آلية تحديد السعر المرجعي اليومي، مع تجنّب خطوات مفاجئة.
كما أشار إلى أن صدور بيانات أميركية أضعف أو خفض فعلي للفائدة من الفيدرالي قد يشكلان عاملاً داعماً لمزيد من صعود اليوان في المدى القريب.
البُعد الجيوسياسي: اجتماع ترامب – زيلينسكي
بعيداً عن العوامل النقدية، يراقب المستثمرون التطورات الجيوسياسية، خاصة الاجتماع المرتقب بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بحضور بعض القادة الأوروبيين.
تضغط واشنطن على كييف لقبول اتفاق سلام سريع لإنهاء الحرب التي توصف بأنها الأشرس في أوروبا منذ ثمانية عقود.
هذه الأحداث قد تنعكس على شهية المخاطر في الأسواق العالمية، وبالتالي على تدفقات الاستثمار وحركة العملات، إذ عادة ما تُفضّل رؤوس الأموال الأمان في فترات التوترات السياسية والعسكرية.
خروج قياسي لرؤوس الأموال من الصين في يوليو
أصدرت إدارة الدولة للنقد الأجنبي بيانات أظهرت أن البنوك المحلية حوّلت في يوليو الماضي صافي 58.3 مليار دولار إلى الخارج نيابة عن عملائها لاستثمارها في الأوراق المالية، وهو المستوى الأعلى منذ بدء تسجيل البيانات عام 2010.
دوافع خروج الأموال
-
مشتريات مكثفة من أسهم هونغ كونغ من جانب المستثمرين في البر الرئيسي، مدفوعة بجاذبية أسعار الأسهم هناك.
-
توسيع برنامج "ربط السندات الجنوبية" في يوليو، ما أتاح زيادة الاستثمارات في السندات الخارجية.
-
تقليص الأجانب لحيازاتهم من السندات الصينية بسبب تراجع جاذبيتها أمام البدائل العالمية ذات العائد المرتفع والمخاطر الأكبر.
سياسة الصين تجاه التدفقات الرأسمالية
رغم حجم التدفقات الخارجة، يرى محللون أن بكين قد تتسامح مع هذه التحركات خلال العام الجاري، مستفيدة من ضعف الدولار النسبي لتعزيز استراتيجيتها الخاصة بـ تحرير تدريجي لحساب رأس المال.
أهداف هذه السياسة:
-
تعزيز تدويل اليوان: أي زيادة اعتماده في المعاملات الدولية كبديل جزئي للدولار.
-
جذب الاستثمارات الأجنبية طويلة الأجل عبر إظهار انفتاح الصين على الأسواق العالمية.
-
توازن استراتيجي بين ضبط السوق الداخلية وتوسيع النفوذ المالي العالمي.
وفي يونيو الماضي، رفعت السلطات الصينية للمرة الأولى منذ أكثر من عام الحد الأقصى للمبالغ التي يمكن للمستثمرين المعتمدين تخصيصها للأصول الخارجية، ما يشير إلى نية واضحة لفتح الأسواق بشكل تدريجي ومدروس.
قراءة ختامية
يتضح أن مسار اليوان في المرحلة الحالية مرهون بمزيج معقد من العوامل:
-
السياسة النقدية الأميركية وتوجهات الاحتياطي الفيدرالي.
-
تدخلات بنك الشعب الصيني للحفاظ على استقرار العملة.
-
التدفقات الرأسمالية الخارجة والداخلة.
-
التطورات الجيوسياسية المؤثرة على شهية المخاطر عالمياً.
ومع ترقب الأسواق لنتائج ندوة جاكسون هول واجتماع ترامب – زيلينسكي، يبقى اليوان تحت مجهر المستثمرين باعتباره عملة ذات ثقل استراتيجي، ليس فقط في التجارة العالمية بل أيضاً في إعادة تشكيل النظام المالي الدولي.