الذهب يحلق إلى مستوى قياسي جديد أعلى 4200 دولار مدفوعًا بتوقعات خفض الفائدة والتوترات الأمريكية الصينية

واصل الذهب مسيرته الصعودية القوية ليسجل مستوى قياسيًا جديدًا فوق 4,200 دولار للأونصة، في ظل رهانات قوية على خفض أسعار الفائدة الأمريكية وتجدد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، أكبر شريكين تجاريين في العالم.


وجاء هذا الارتفاع مدفوعًا بمزيج من الضغوط على الدولار الأمريكي وتراجع عوائد سندات الخزانة الأمريكية، إلى جانب تصريحات مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي التي فسّرها المستثمرون على أنها تلميحات واضحة نحو سياسة نقدية أكثر تيسيرًا خلال الفترة المقبلة.


كما أن تجدد الخلافات التجارية بين واشنطن وبكين أعاد إشعال الطلب على الملاذات الآمنة، وعلى رأسها المعدن الأصفر الذي ارتفع بقوة للأسبوع الثامن على التوالي في أطول موجة مكاسب منذ أعوام.

الذهب يسجل مستويات تاريخية

ارتفعت أسعار الذهب إلى مستوى قياسي جديد، مسجلة ثالث جلسة متتالية من المستويات التاريخية، إذ غذت التوقعات بخفض وشيك لأسعار الفائدة الأمريكية وتجدد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين الطلب القوي على المعدن النفيس.

 

تداول الذهب الفوري بارتفاع 1.56% عند 4,215 دولار للأونصة في الساعة 11:15صباحًا بتوقيت تركيا، بينما ارتفعت عقود الذهب الأمريكية لشهر ديسمبر بنسبة 1.46% إلى 4,233 دولار، لتواصل الأسعار تحليقها نحو مستويات غير مسبوقة في التاريخ الحديث.

 

وقد شهد المعدن الأصفر مكاسب قوية على مدار الأسابيع الثمانية الماضية، ما يجعله على أعتاب تحقيق قفزة أسبوعية جديدة إذا استمرت المكاسب بنفس الزخم الحالي، مدعومًا بالطلب العالمي المتزايد من صناديق التحوط والبنوك المركزية.

تصريحات باول تعزز توقعات خفض الفائدة

جاءت موجة الارتفاع الأخيرة في أعقاب تصريحات رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جيروم باول، التي فُسرت على نطاق واسع بأنها إشارة إلى تبني نهج أكثر تساهلاً في السياسة النقدية خلال الاجتماعات المقبلة.

 

قال باول إن الاقتصاد الأمريكي قد يكون على مسار أكثر ثباتًا مما كان متوقعًا، لكنه حذّر من ضعف سوق العمل واحتمال ظهور "مخاطر هبوطية كبيرة" على النمو.


وأضاف أن القرارات المستقبلية للفيدرالي سيتم اتخاذها "اجتماعًا تلو الآخر" بناءً على البيانات الاقتصادية، مشيرًا إلى أنه لا يوجد مسار خالٍ من المخاطر للسياسة النقدية.

 

وقد دفعت هذه التصريحات الأسواق إلى رفع رهاناتها على خفض الفائدة في كل من اجتماعي أكتوبر وديسمبر، ما انعكس فورًا على تراجع عوائد السندات الأمريكية وضعف الدولار — وهما عاملان رئيسيان في دعم أسعار الذهب.

 

أشار باول أيضًا إلى أن الاحتياطي الفيدرالي يقترب من إنهاء عملية تقليص ميزانيته العمومية، موضحًا أن مستوى الاحتياطيات البنكية أصبح "أعلى قليلًا من المستوى المتوافق مع ظروف الاحتياطيات الوفيرة"، وهي إشارة إلى قرب التوقف عن سياسة التشديد الكمي.

 

وقال باول:

 

"قد نقترب من تلك النقطة في الأشهر المقبلة، ونحن نراقب عن كثب مجموعة واسعة من المؤشرات لاتخاذ القرار المناسب."

وأكد بنك جي بي مورغان تشيس في مذكرة بحثية أن هذه التصريحات "تؤكد بوضوح ميل الفيدرالي إلى خفض الفائدة بدءًا من اجتماع 28-29 أكتوبر"، مشيرًا إلى أن الأسواق كانت تتوقع مسبقًا هذا الاتجاه، لكن تصريحات باول جاءت كـ"تأكيد قوي لذلك التوقع".

مواقف متقاربة من أعضاء الفيدرالي

لم يكن باول وحده من أعطى إشارات على تيسير السياسة النقدية؛ إذ عبّرت ميشيل بومان، نائبة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لشؤون الإشراف، عن توقعها تنفيذ خفضين إضافيين في أسعار الفائدة خلال عام 2025، مؤكدة على ضرورة أن تبقى السياسة النقدية مرنة في مواجهة التقلبات الاقتصادية.

 

وفي أغسطس الماضي، كانت بومان قد دعت إلى تنفيذ ثلاثة خفضات إضافية في أسعار الفائدة، قبل أن يقوم الفيدرالي فعلاً في سبتمبر بخفضها بمقدار 25 نقطة أساس — وهي الخطوة التي اعتبرتها الأسواق إشارة رسمية إلى بدء دورة تيسير نقدي جديدة.

 

من جهتها، أيدت سوزان كولينز، رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي في بوسطن، خفضًا إضافيًا هذا العام، مؤكدة أن "تطبيع السياسة النقدية بشكل أكبر أمر ضروري لدعم سوق العمل"، في ظل تباطؤ النشاط الاقتصادي واحتواء الضغوط التضخمية.

 

وأضافت كولينز:

 

"حتى مع خفض أسعار الفائدة، ستظل السياسة النقدية تقييدية بعض الشيء، وهو ما يعد مناسبًا لضمان استمرار تراجع التضخم."

وشددت على أن السياسة ليست محددة مسبقًا بالكامل، وأن هناك احتمالًا للإبقاء على الفائدة مستقرة مؤقتًا لتقييم أثر القرارات السابقة.

تصاعد التوترات التجارية بين واشنطن وبكين

إلى جانب العوامل النقدية، اشتعلت التوترات التجارية مجددًا بين الولايات المتحدة والصين.


فقد طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فكرة إنهاء بعض العلاقات التجارية مع الصين، مستهدفًا واردات زيت الطهي، كرد على تراجع بكين عن شراء فول الصويا الأمريكي، وهي خطوة أثارت قلق الأسواق بشأن احتمال اندلاع مواجهة تجارية جديدة بين أكبر اقتصادين في العالم.

 

وردت الصين بفرض رسوم متبادلة على شركات الشحن البحري، مما عمّق المواجهة بين البلدين حول الرسوم والتعريفات التجارية.


وقال محللو ING في مذكرة حديثة:

 

"الذهب والفضة هما من أفضل السلع أداءً هذا العام، حيث ارتفعت الأسعار بأكثر من 55% و80% منذ بداية العام على التوالي، مدعومة بتيسير سياسة الفيدرالي، ومشتريات البنوك المركزية، والتوترات الجيوسياسية المتزايدة."

في الوقت نفسه، رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي لعام 2025، مشيرًا إلى تحسّن الأوضاع المالية والتجارية، لكنه حذر من أن تجدّد التوترات بين واشنطن وبكين قد يحد من هذا النمو.

أداء المعادن الأخرى: الفضة، البلاتين، البلاديوم

لم يكن الذهب وحده المستفيد من موجة التفاؤل والطلب على الأمان، إذ ارتفعت أسعار المعادن الأخرى أيضًا:

  • الفضة ارتفعت بنسبة 0.3% إلى 51.60 دولار، بعد أن بلغت مستوى قياسيًا عند 53.60 دولار يوم الثلاثاء، مدعومة بمسار الذهب وتشديد المعروض في السوق الفورية.

  • البلاتين صعد بنسبة 0.8% إلى 1,650.65 دولار،

  • بينما ارتفع البلاديوم بنسبة 0.2% إلى 1,528.50 دولار.

وتشير البيانات إلى أن المعدنين الفضي والذهبي يقودان موجة ارتفاع شاملة في أسواق المعادن الثمينة مدفوعة بتراجع الدولار والمخاطر الجيوسياسية المتزايدة.

التحليل التاريخي: الذهب في فترات خفض الفائدة

من الناحية التاريخية، عادة ما يشهد الذهب ارتفاعات قوية في فترات خفض الفائدة الأمريكية.
فعقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، ارتفعت الأسعار من نحو 850 دولارًا إلى أكثر من 1,900 دولار في غضون ثلاث سنوات، مدفوعة بالتيسير الكمي وخفض الفائدة إلى مستويات صفرية.
وفي عام 2020، خلال جائحة كورونا، قفز الذهب مجددًا إلى قرابة 2,070 دولارًا بعد سلسلة من التخفيضات الحادة في الفائدة الأمريكية.

لذلك، يرى المحللون أن الاتجاه الحالي مشابه لتلك المراحل، حيث تتزايد مخاوف التباطؤ الاقتصادي العالمي وتلوح بوادر تيسير نقدي واسع، ما يدفع المستثمرين مجددًا إلى التحوط عبر الذهب.

النظرة المستقبلية: هل يواصل الذهب التحليق؟

تُجمع المؤسسات المالية الكبرى على أن الذهب قد يواصل صعوده إذا استمر الفيدرالي في خفض الفائدة مرتين إضافيتين خلال العام الجاري.


ووفقًا لتقديرات “بلومبرغ إيكونوميكس”، من المتوقع أن تتجاوز الأسعار 4,300 دولار للأونصة قبل نهاية العام، مدفوعة بتراجع الدولار واستمرار الطلب القوي من البنوك المركزية.

 

ويُرجح أن تبقى البيئة الجيوسياسية والاقتصادية في صالح الذهب، خاصة مع استمرار التوترات بين أميركا والصين وتباطؤ مؤشرات النمو الصناعي العالمي، ما يجعل المعدن الأصفر الوجهة الأولى للتحوط ضد المخاطر المالية.

 

خلاصة تحليلية

الذهب اليوم لا يعكس فقط أسعار المعادن، بل يمثل مؤشرًا حساسًا على مزاج الأسواق العالمية.


ومع عودة الحديث عن خفض الفائدة الأمريكية وتجدد التوتر التجاري بين واشنطن وبكين، فإن الزخم الحالي يبدو مستمرًا نحو مستويات أعلى.


وبينما يسعى الفيدرالي لتجنب ركود اقتصادي محتمل، يواصل المستثمرون تدفقهم نحو الذهب باعتباره الملاذ الآمن الأبرز في فترات الضبابية المالية، مما يجعل من 2025 عامًا استثنائيًا في مسار المعدن النفيس.

تم التحديث في: الأربعاء, 15 تشرين الأول 2025 11:27
حقوق النشر © جميع الحقوق محفوظة لشركة أصول