الذهب بعد القفزة التاريخية في 2025: إلى أين تتجه أسعار الذهب في 2026 وما بعدها؟
شهدت أسعار الذهب خلال عام 2025 ارتفاعاً استثنائياً ومتواصلاً، ليؤكد المعدن الأصفر مجدداً مكانته كأحد أهم أدوات التحوط في النظام المالي العالمي. فقد ارتفعت الأسعار بنسبة تقارب 66% منذ بداية العام، وتجاوزت حاجز 4000 دولار للأونصة للمرة الأولى في تاريخها خلال شهر أكتوبر تشرين الأول، في قفزة تاريخية تعكس تحولات عميقة في المشهدين الاقتصادي والجيوسياسي العالميين.
وقد أسهمت مجموعة متشابكة من العوامل في خلق البيئة المثالية لهذا الارتفاع غير المسبوق، أبرزها تصاعد المخاوف التجارية، وتراجع الثقة بالدولار الأميركي، وتسارع وتيرة مشتريات البنوك المركزية من الذهب، إلى جانب تنامي القلق من التضخم وتدهور أوضاع المالية العامة في الاقتصادات الكبرى.
ومع هذا الأداء القوي الذي شهده عام 2025، تبرز تساؤلات جوهرية في أوساط المستثمرين وصنّاع القرار: إلى أين تتجه أسعار الذهب في عام 2026 وما بعده؟ وهل لا يزال الزخم الصاعد قادراً على الاستمرار؟
أداء الذهب في 2025: ثاني أفضل عام في تاريخه
يبلغ سعر الذهب الفوري حالياً نحو 4395 دولاراً للأونصة، مسجلاً ارتفاعاً يقارب 67% منذ بداية العام، وهو ما يجعل عام 2025 ثاني أفضل الأعوام أداءً في تاريخ الذهب الحديث، بعد عام 1979 الذي شهد ارتفاعاً استثنائياً بنسبة 126%.
ولا يُعزى هذا الارتفاع الحاد إلى عامل واحد فقط، بل جاء نتيجة تراكم مجموعة من المحركات الأساسية القوية، التي أعادت رسم العلاقة التقليدية بين الذهب وبقية الأصول المالية، وأحدثت تحولات جوهرية في سلوك المستثمرين والبنوك المركزية على حد سواء.
العوامل الأساسية وراء موجة الصعود التاريخية للذهب
1. المخاوف السياسية والجيوسياسية
أدّت التوترات السياسية المتصاعدة والصراعات الجيوسياسية الممتدة في عدة مناطق من العالم إلى تعزيز الطلب على الذهب كملاذ آمن. فقد زادت حالة عدم اليقين العالمية نتيجة استمرار الحرب في أوكرانيا، والتوترات المتقلبة في الشرق الأوسط، إلى جانب بؤر توتر أخرى تهدد الاستقرار العالمي.
2. القلق من الدولار الأميركي كعملة احتياطية
تزايدت الشكوك خلال 2025 بشأن مستقبل الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية، في ظل ارتفاع مستويات الدين العام الأميركي، واتساع العجزين المالي والتجاري، وتنامي الحديث عن استخدام الدولار كسلاح سياسي واقتصادي. وقد دفع ذلك العديد من الدول إلى تسريع جهود تنويع احتياطياتها بعيداً عن العملة الأميركية، ما عزز الطلب على الذهب.
3. التحوط من التضخم وتدهور قيمة العملات الورقية
شكّل التضخم المرتفع والإنفاق المالي المفرط في الاقتصادات الكبرى عاملاً رئيسياً في صعود الذهب. فقد أدّت السياسات المالية غير المنضبطة وارتفاع مستويات الدين العام إلى ما يمكن وصفه بسيطرة السياسة المالية على السياسة النقدية، الأمر الذي أسهم في تآكل القيمة الحقيقية للعملات الورقية وزيادة الإقبال على الأصول الحقيقية وفي مقدمتها الذهب.
4. كسر العلاقة التقليدية مع الدولار والعوائد
أدّت المخاطر المتزايدة التي تواجه الدولار الأميركي وسندات الخزانة الأميركية إلى كسر العلاقة التاريخية التقليدية بين الذهب وكل من الدولار الأميركي وعوائد السندات. ففي ظل بيئة يسودها الشك في استدامة المالية العامة الأميركية، لم يعد ارتفاع العوائد أو تحركات الدولار كافياً للحد من الطلب على الذهب.
5. مشتريات غير مسبوقة من البنوك المركزية
ساهمت التغيرات الجذرية في المشهد الاقتصادي والجيوسياسي العالمي في دفع البنوك المركزية إلى تنفيذ عمليات شراء واسعة النطاق للذهب خلال السنوات الأخيرة، في إطار استراتيجيات تهدف إلى تنويع الاحتياطيات الأجنبية وتقليل الاعتماد على الدولار الأميركي وسندات الخزانة.
عوامل تدعم استمرار ارتفاع أسعار الذهب والمعادن النفيسة في 2026
عوائد السندات والضغوط التضخمية
على الرغم من اتجاه الاحتياطي الفدرالي الأميركي إلى خفض معدلات الفائدة، تشهد عوائد السندات طويلة الأجل ارتفاعاً على المستوى العالمي، مدفوعة بالمخاوف المالية وتوقعات التضخم، في ظل استمرار تراجع القوة الشرائية للعملات الرئيسية دون وجود ضوابط فعالة.
وقد يدفع هذا الارتفاع في عوائد السندات طويلة الأجل الاحتياطي الفدرالي إلى تبني سياسات غير تقليدية، مثل التحكم في منحنى العائد أو العودة إلى برامج التيسير الكمي، بهدف تخفيف المخاطر التي تهدد الاقتصاد الأميركي وخفض تكلفة خدمة الدين. ومن شأن هذه السياسات أن تشكل عاملاً داعماً لأسعار الذهب والفضة.
السياسة النقدية الأميركية وسوق العمل
من المتوقع أن يقدم الاحتياطي الفدرالي على خفض معدلات الفائدة مرتين خلال عام 2026، استجابة لضعف سوق العمل الأميركي. ومع ذلك، لا يُرجّح أن يتجاوز عدد مرات الخفض هذا المستوى، في ظل استمرار الضغوط التضخمية.
وكان رئيس الاحتياطي الفدرالي، جيروم باول، قد أعرب عقب اجتماع اللجنة الفدرالية للسوق المفتوحة في 10 ديسمبر كانون الأول عن قلقه من أن بيانات الوظائف غير الزراعية قد تكون بالغت في تقدير عدد الوظائف بما يصل إلى 60 ألف وظيفة منذ شهر أبريل نيسان.
ووفقاً لهذه التقديرات، فإن إجمالي 277 ألف وظيفة يُقال إنها أُنشئت خلال تلك الفترة قد يخفي في الواقع فقداناً لأكثر من 200 ألف وظيفة، ما يعكس هشاشة أوضاع سوق العمل.
الحروب التجارية وإعادة تشكيل النظام العالمي
تسهم حروب الرسوم الجمركية التي يقودها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إلى جانب أجندة «أميركا أولاً»، في جعل المشهد الجيوسياسي أكثر هشاشة وتقلباً، في ظل مستويات مرتفعة من عدم اليقين الاقتصادي.
وقد دفعت هذه السياسات العديد من الدول إلى إعادة النظر في مفهوم العولمة، في إطار ما يمكن اعتباره إعادة ضبط جيوسياسية شاملة. كما أن الصراع المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين على الهيمنة العالمية يُتوقع أن يواصل تقديم دعم قوي للمعادن الثمينة، وفي مقدمتها الذهب.
المخاطر الجيوسياسية واستمرار علاوات المخاطر
لا تزال علاوات المخاطر الجيوسياسية مرتفعة ومضمّنة في أسعار الذهب، في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، والأوضاع غير المستقرة في الشرق الأوسط، إضافة إلى التوترات الكامنة في منطقة الكاريبي نتيجة المواجهة بين الولايات المتحدة وفنزويلا. وتُسهم هذه العوامل مجتمعة في تعزيز الطلب على الذهب كأداة تحوط ضد الصدمات غير المتوقعة.
الضغوط المؤسسية على الاحتياطي الفدرالي
في المقابل، تتزايد المخاطر المؤسسية المرتبطة باستقلالية الاحتياطي الفدرالي، مع تصاعد الضغوط السياسية على صانعي السياسة النقدية. فقد أثار انضمام ستيفن ميران، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين، إلى مجلس محافظي الاحتياطي الفدرالي، إلى جانب تداول اسم كيفن هاسيت، المعروف بدعمه القوي لخفض معدلات الفائدة، كخليفة محتمل لجيروم باول، تساؤلات متزايدة حول استقلالية البنك المركزي ومصداقيته في مكافحة التضخم.
ومع اتجاه الفدرالي إلى خفض معدلات الفائدة في بيئة تضخم مرتفع، وتطبيع معدل تضخم عند مستوى 3%، تتزايد الشكوك بشأن قدرته على احتواء الضغوط السعرية، لا سيما في ظل التهديدات السياسية المتنامية لاستقلاليته.
الدولار الأميركي تحت الضغط
أما مؤشر الدولار الأميركي، الذي تراجع بالفعل بنحو 10% منذ بداية العام، فيواجه مخاطر مزيد من الخسائر بفعل العجز المزدوج الكبير في الولايات المتحدة، وسياسات التنويع، والاتجاه نحو سياسة نقدية أكثر تيسيراً. ويضاف إلى ذلك توجه الحكومة الأميركية نحو إضعاف الدولار دعماً لقطاع التصنيع المحلي، الذي تعرّض لتآكل عميق خلال العقود الماضية.
صناديق الاستثمار في الذهب ودورها في دعم الأسعار
تسهم التقييمات المرتفعة لأسواق الأسهم، المدفوعة بزخم الذكاء الاصطناعي، إلى جانب المخاوف المتزايدة بشأن العوائد المستقبلية على الاستثمار، في تعزيز جاذبية الذهب كأصل بديل.
وقد بلغت حيازات صناديق المؤشرات المتداولة المدعومة بالذهب عالمياً نحو 98.41 مليون أونصة، بزيادة تقارب 18.7% منذ بداية العام، أي ما يعادل نحو 484 طناً، لتصل إلى أعلى مستوى لها منذ سبتمبر أيلول 2022.
كما بلغت التدفقات الصافية المسجلة خلال عام 2025 نحو 644 طناً، وهو أعلى مستوى منذ عام 2009، في حين يبقى المستوى القياسي التاريخي عند 111.25 مليون أونصة، والمسجل في 15 أكتوبر تشرين الأول 2020، وفقاً لبيانات موقع Timesofindia.
مشتريات البنوك المركزية والاحتياطيات العالمية
تبلغ حصة الذهب حالياً نحو 28% من إجمالي احتياطيات البنوك المركزية العالمية، لتأتي في المرتبة الثانية بعد الدولار الأميركي، وقريبة من أعلى مستوياتها خلال ثلاثة عقود. وتشير تقارير حديثة إلى أن حصة الذهب تجاوزت حصة سندات الخزانة الأميركية للمرة الأولى منذ عام 1996.
كما كادت حصة الذهب في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية أن تتضاعف ثلاث مرات منذ أزمة 2007–2008. ومع الأخذ في الاعتبار أن حصة الذهب بلغت نحو 75% من الاحتياطيات العالمية في ثمانينيات القرن الماضي، فإن ذلك يشير بوضوح إلى وجود مجال واسع لمزيد من عمليات الشراء من قبل القطاع الرسمي خلال السنوات المقبلة.
توقعات أسعار الذهب في 2026 وما بعدها
تشير التقديرات الصادرة عن كبرى المؤسسات المالية العالمية إلى استمرار الاتجاه الصاعد للذهب خلال عام 2026 وما بعده. إذ يتوقع بنك جيه بي مورغان أن يدفع الطلب القوي على الذهب الأسعار نحو مستوى 5000 دولار للأونصة بحلول نهاية عام 2026، مع إمكانية ارتفاعها إلى 5400 دولار للأونصة بحلول نهاية عام 2027.
من جهته، يتوقع بنك غولدمان ساكس ارتفاع أسعار الذهب بنسبة تقارب 20% بنهاية عام 2026، ليصل السعر إلى نحو 4900 دولار للأونصة.
أما محللو استراتيجيات السلع في بنك يو بي إس، فيرون أن أسعار الذهب قد تصل إلى 5000 دولار للأونصة بحلول سبتمبر أيلول 2026، مشيرين إلى أن أي تصاعد في الاضطرابات السياسية أو الاقتصادية، لا سيما تلك المرتبطة بانتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي، قد يدفع المعدن الأصفر إلى مستويات تصل إلى 5400 دولار للأونصة.