البنك المركزي النيوزيلندي يفاجئ الأسواق بخفض الفائدة أكثر من المتوقع ويلمّح لمزيد من التيسير

في تحرك مفاجئ للأسواق المالية والمستثمرين، أعلن البنك المركزي النيوزيلندي (RBNZ) يوم الأربعاء عن خفض سعر الفائدة النقدي الرسمي (OCR) بمقدار 50 نقطة أساس، ليصل إلى 2.5%، في خطوة وصفت بأنها أكثر جرأة من التوقعات التي كانت تشير إلى خفض محدود لا يتجاوز 25 نقطة أساس.


ويأتي هذا القرار في وقت يشهد فيه الاقتصاد النيوزيلندي حالة تباطؤ واضحة، مع ضعف في معدلات الاستثمار وتراجع في ثقة المستهلكين وارتفاع الضغوط المعيشية، مما دفع البنك إلى تبني موقف تيسيري واضح وترك الباب مفتوحاً أمام مزيد من خفض الفائدة خلال الأشهر المقبلة.

 

الأسواق المالية استجابت فوراً للقرار، إذ تراجع الدولار النيوزيلندي بقوة مقابل نظيره الأمريكي، وانخفضت مقايضات أسعار الفائدة قصيرة الأجل، بينما ارتفعت رهانات المستثمرين على احتمال تنفيذ جولات إضافية من التيسير النقدي خلال الفترة المقبلة.

قرار الفائدة في نيوزيلندا

قررت لجنة السياسة النقدية لدى بنك الاحتياطي النيوزلندي صباح اليوم الأربعاء، خفض أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس، ليصل معدل الفائدة الرئيسي OCR عند المستوى 2.50%.

وجاء قرار الاحتياطي النيوزلندي مخالفاً لتوقعات الأسواق التي رجحت خفض الفائدة بمقدار 525 نقطة أساس فقط.

ويقيس هذا معدلات الفائدة على عمليات اقتراض البنوك من البنك الاحتياطي النيوزلندي لليلة واحدة، ولهذا المؤشر أهمية كبيرة، حيث تؤثر معدلات الفائدة على المدى المتوسط على قيمة العملة، ويترقب المتداولون صدور بيان الاحتياطي النيوزلندي لمعرفة احتمالية تغيير معدلات الفائدة خلال الفترة المقبلة.

وعادة يتم توقع قرار الفائدة بالأسواق ولهذا فإن بيان الفائدة الصادر عن بنك الاحتياطي النيوزلندي يكون له التأثير الأقوى على الأسواق لتضمنه معلومات عن السياسة النقدية المستقبلية، وسوف نوافيكم خلال دقائق قليلة ببيان الفائدة لبنك الاحتياطي النيوزلندي.

بيان البنك المركزي النيوزيلندي

في بيان السياسة النقدية الصادر عقب الاجتماع، أوضح البنك أن قراره جاء نتيجة إجماع لجنة السياسة النقدية، حيث جاء في البيان:

 

«توصلت اللجنة إلى إجماع على خفض سعر الفائدة النقدي الرسمي بمقدار 50 نقطة أساس إلى 2.5%، وتبقى اللجنة منفتحة على مزيد من التخفيضات حسب الحاجة، لضمان استقرار التضخم بالقرب من المستوى المستهدف البالغ 2% على المدى المتوسط».

ويؤكد هذا التصريح أن البنك المركزي يتبنّى نهجاً مرناً وتفاعلياً، مفضلاً دعم النشاط الاقتصادي على التمسك بمستويات فائدة مرتفعة قد تُعمّق الركود القائم.

 

كما أن هذا الموقف المتساهل يُعتبر خبراً ساراً للحكومة النيوزيلندية، خصوصاً لرئيس الوزراء كريستوفر لكسون، الذي تراجعت شعبيته بشكل حاد في الأشهر الأخيرة بسبب فشل خطط التعافي الاقتصادي. وكان لكسون قد عبّر مراراً عن رغبته في خفض الفائدة لتحفيز الاقتصاد الراكد، وإعادة تنشيط قطاعي الأعمال والاستهلاك المحلي.

تداعيات اقتصادية وسياسية واسعة

يأتي القرار في ظل تراجع ثقة الأعمال والمستهلكين، مع استمرار الضغوط المعيشية على الأسر النيوزيلندية نتيجة ارتفاع تكاليف السكن والطاقة والغذاء، وتباطؤ سوق العمل وندرة فرص العمل الجديدة.

 

وأظهر استطلاع حديث صادر عن اتحاد دافعي الضرائب وشركة “كوريا” أن الحكومة الحالية قد تفقد أغلبيتها البرلمانية إذا أُجريت الانتخابات حالياً، وهو ما يعكس حجم التراجع في ثقة المواطنين بالوضع الاقتصادي.

 

وفي تعليقها على القرار، قالت وزيرة المالية نيكولا ويليس إن خفض الفائدة يمثل “أخباراً جيدة للنمو وفرص العمل والاستثمار”، لكنها أضافت أن “العديد من النيوزيلنديين لا يزالون يواجهون صعوبات حقيقية في تلبية احتياجاتهم الأساسية”، مشيرة إلى أهمية استمرار السياسات التحفيزية لدعم الاقتصاد حتى تظهر علامات تعافٍ ملموسة.

الأسواق المالية تترقب مزيداً من التخفيضات

بعد إعلان القرار، انخفض الدولار النيوزيلندي بنسبة 0.9% إلى 0.5745 دولار أميركي، كما تراجعت مقايضات أسعار الفائدة لأجل عامين إلى 2.5251% بعد أن كانت 2.6194% قبل القرار.


وتُسعّر الأسواق حالياً احتمالاً قوياً بأن يقوم البنك بخفض إضافي بمقدار 25 نقطة أساس ليصل سعر الفائدة إلى 2.25% في اجتماعاته القادمة، مع توقعات بنسبة 60% لأن يصل المستوى النهائي إلى 2.00% خلال الدورة الحالية.

 

وقال نيك تافلي، كبير الاقتصاديين في بنك “إيه إس بي”، إن قرار البنك المركزي يشير بوضوح إلى أن مخاطر ضعف الضغوط التضخمية أصبحت أهم من مراقبة سرعة التعافي الاقتصادي، مضيفاً أن البنك يفضل الآن "التحرك الاستباقي لتجنب ركود أعمق".

مسار السياسة النقدية: من التشديد إلى التيسير

منذ أغسطس/آب 2024، قام البنك المركزي النيوزيلندي بخفض أسعار الفائدة بمقدار إجمالي 300 نقطة أساس، بعد أن كانت قد بلغت مستويات مرتفعة خلال فترة التشديد النقدي الممتدة بين عامي 2021 و2023.


وخلال تلك الفترة، كان البنك من أوائل البنوك المركزية في العالم التي بادرت إلى سحب التحفيزات التي أُقرت أثناء جائحة كوفيد-19، حيث رفع أسعار الفائدة بمقدار 525 نقطة أساس بين أكتوبر/تشرين الأول 2021 وسبتمبر/أيلول 2023، وهي أكبر دورة تشديد في تاريخ نيوزيلندا منذ اعتماد سعر الفائدة النقدي الرسمي عام 1999.

 

لكن النتائج جاءت قاسية، إذ أدت تكاليف الاقتراض المرتفعة إلى كبح الطلب المحلي وتراجع الاستثمار والإنفاق الاستهلاكي، ما تسبب في ركود اقتصادي رسمي عام 2024، لتجد نيوزيلندا نفسها أمام تحدي استعادة النمو دون إشعال موجة تضخمية جديدة.

بيان السياسة النقدية الصادر عن الاحتياطي النيوزلندي

أصدر الاحتياطي النيوزلندي ملخص المداولات ومحضر هذا الاجتماع، والذي تطرق إلى ما يلي:

  • يبلغ معدل التضخم السنوي في مؤشر أسعار المستهلكين حاليًا نحو الحد الأعلى من نطاق هدف الاحتياطي النيوزلندي البالغ من 1 إلى 3%ومع ذلك، ومع وجود طاقة فائضة في الاقتصاد، من المتوقع أن يعود التضخم إلى نحو نقطة الهدف المتوسطة البالغة 2% خلال النصف الأول من عام 2026 كان النشاط الاقتصادي خلال منتصف عام 2025 ضعيفًا ويرجع ذلك جزئيًا إلى القيود المحلية على عرض السلع والخدمات في بعض الصناعات، وإلى تأثير حالة عدم اليقين في السياسات الاقتصادية العالمية.
  • يتعافى إنفاق الأسر جزئيًا نتيجة انخفاض أسعار الفائدة، وتستمر أسعار السلع الأساسية المرتفعة في دعم القطاع الأولي.
  • أسعار المساكن مستقرة، بينما يظل الاستثمار السكني والتجاري ضعيفًا.
  • يثبت نمو الاقتصاد في شركاء نيوزيلندا التجاريين مرونة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى قوة الاستثمار في الأنشطة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، لكنه من المتوقع أن يتباطأ في عام 2026.
  • توجد مخاطر صعودية وهبوطية لتوقعات التضخم في نيوزيلندا.
  • قد يؤدي السلوك الحذر من قبل الأسر والشركات إلى إبطاء التعافي الاقتصادي، مما يقلل من ضغوط التضخم على المدى المتوسط ومن ناحية أخرى، قد يثبت أن ارتفاع التضخم على المدى القريب أكثر استمرارًا.
  • في المجمل، توصل الاحتياطي النيوزلندي بالإجماع على خفض سعر الفائدة الرسمي (OCR) بمقدار 50 نقطة أساس ليصل إلى 2.5%.
  • ويظل بنك الاحتياطي النيوزلندي منفتح على مزيد من الخفض في سعر الفائدة الرسمي عند الحاجة، لضمان استقرار التضخم بالقرب من نقطة الهدف المتوسطة البالغة 2% على المدى المتوسط.
  • يرى الاحتياطي النيوزلندي أن الضغوط على تكاليف الشركات تشكل مخاطر تصاعدية للتضخم.

  • تتأثر الأوضاع المالية بمستوى سعر الفائدة الرسمي الحالي والمسار المتوقع له مستقبلاً.

  • خفض سعر الفائدة الرسمي بمقدار 25 نقطة أساس، مع الإشارة إلى احتمال مزيد من التيسير في نوفمبر، يمكن أن يدعم التعافي الاقتصادي المستدام ويمنح الثقة بأن التضخم سيتقارب بسرعة نحو هدف 2%.

  • يؤكد مؤيدو خفض الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس على استمرار وجود طاقة فائضة في الاقتصاد ومخاطر هبوط النشاط والتضخم على المدى المتوسط.

  • أشار الاحتياطي النيوزلندي إلى أن الضغوط التضخمية المحلية تراجعت كما كان متوقعًا، مما زاد ثقة اللجنة في احتواء التضخم.

  • بعض الأعضاء قلقون من أن الحذر المفرط من الأسر والشركات قد يُبقي النشاط الاقتصادي والتوظيف ضعيفين، لذا فإن خفضًا أكبر للفائدة قد يساعد على تحفيز الاستهلاك والاستثمار.

  • في المحصلة، قرر الاحتياطي النيوزلندي في اجتماع يوم الأربعاء 8 أكتوبر خفض سعر الفائدة الرسمي بمقدار 50 نقطة أساس إلى 2.5% وتظل اللجنة منفتحة على مزيد من الخفض عند الحاجة لضمان استقرار التضخم بالقرب من الهدف البالغ 2% على المدى المتوسط.

نظرة تاريخية: رحلة أسعار الفائدة في نيوزيلندا

منذ إنشاء سعر الفائدة النقدي الرسمي عام 1999، مرّت نيوزيلندا بدورات متعددة من الرفع والخفض تتماشى مع تحولات الاقتصاد العالمي:

  • في أوائل الألفية (2000–2007): رفع البنك المركزي أسعار الفائدة تدريجياً لمواجهة طفرة الإنفاق العقاري والنمو السريع، حتى وصلت إلى نحو 8.25% قبل الأزمة المالية العالمية.

  • خلال أزمة 2008: تم خفض الفائدة بسرعة من 8.25% إلى 2.5% خلال أقل من عامين لمواجهة الانكماش العالمي.

  • في العقد التالي (2010–2019): استقرّت الفائدة عند مستويات منخفضة (بين 1.75% و2.75%) لدعم الاقتصاد، مع فترة قصيرة من الرفع في 2014 قبل العودة إلى التيسير بسبب ضعف النمو.

  • أثناء جائحة كوفيد-19: هبطت الفائدة إلى 0.25%، وهو أدنى مستوى تاريخي على الإطلاق، مع إطلاق برامج شراء أصول ضخمة لدعم السيولة.

  • من 2021 إلى 2023: أطلق البنك دورة تشديد قوية رفعت الفائدة إلى 5.5% لمواجهة موجة تضخم عالمية، قبل أن يبدأ مجدداً خفضها في منتصف 2024 مع تراجع التضخم وظهور علامات الركود.

هذه الرحلة الطويلة تُظهر مدى مرونة السياسة النقدية النيوزيلندية، وقدرتها على التكيّف مع التغيرات العالمية، لكنها أيضاً تسلط الضوء على التحديات المزدوجة التي تواجهها حالياً: دعم النمو دون إشعال التضخم مجدداً.

التحديات التضخمية والضغوط المستقبلية

من بين أبرز العقبات التي يواجهها البنك المركزي حالياً استمرار الضغوط التضخمية، إذ ارتفع معدل التضخم إلى 2.7% في الربع الثاني من عام 2025، ومن المتوقع أن يصل إلى 3.0% في الربع الثالث.


لكن البنك يرى أن الطاقة الفائضة في الاقتصاد وضعف الطلب المحلي سيسهمان في عودة التضخم نحو منتصف النطاق المستهدف (2%) بحلول عام 2026.

 

وفي حين تخفف هذه التوقعات الضغط على البنك، فإن المخاطر الخارجية لا تزال قائمة، خصوصاً بعد الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والسياسات المالية المتشددة للحكومة النيوزيلندية، مما أضعف ثقة المستثمرين وأدى إلى ارتفاع معدلات البطالة.

مقارنة مع سياسات البنوك المركزية العالمية

تتباين سياسات البنوك المركزية حول العالم حالياً:

  • الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أجرى أول خفض للفائدة في سبتمبر الماضي، متخذاً نهجاً تدريجياً وحذراً.

  • بنك الاحتياطي الأسترالي فضّل الإبقاء على الفائدة دون تغيير الأسبوع الماضي، مشيراً إلى مخاوف التضخم المحلي.

  • في المقابل، تتبنى نيوزيلندا نهجاً أكثر جرأة، إذ ترى أن دعم الاقتصاد المنكمش أولوية تتجاوز المخاطر قصيرة الأجل على الأسعار.

وتقول زوي واليس، الخبيرة الاستراتيجية في شركة الوساطة "فورسايث"، إن البنك لا يزال في طريقه نحو معدل نهائي عند 2.25%، لكنها أضافت أن “هناك احتمالاً لمزيد من التيسير دون هذا المستوى إذا ظل التضخم تحت السيطرة وفشل الاقتصاد في إظهار مؤشرات انتعاش واضحة”.

المرحلة الانتقالية في قيادة البنك المركزي

من الجدير بالذكر أن اجتماع الأربعاء يُعد قبل الأخير لحاكم البنك الحالي كريستيان هوكسبي، الذي سيُسلّم المنصب في الأول من ديسمبر المقبل إلى السويدية آنا برين، التي عيّنتها الحكومة الشهر الماضي.


وتواجه برين مهمة معقدة في الموازنة بين التحفيز النقدي ودعم استقرار الأسعار، وسط بيئة اقتصادية مضطربة ومناخ سياسي غير مستقر.

 

خاتمة: توازن صعب بين دعم النمو وضبط الأسعار

يبدو أن نيوزيلندا تدخل مرحلة جديدة من السياسة النقدية التيسيرية بعد عامين من التشديد القاسي، في محاولة لإنعاش اقتصادها المتعثر دون إشعال موجة تضخمية جديدة.


ومع استمرار ضعف الثقة وارتفاع البطالة، فإن قرارات البنك المقبلة ستكون محور اهتمام الأسواق العالمية، خصوصاً أن التجربة النيوزيلندية لطالما كانت مؤشراً مبكراً على توجهات السياسة النقدية في الاقتصادات المتقدمة الصغيرة.

 

ومع الترقب الحذر في الأسواق، تظل الخطوة التالية للبنك المركزي النيوزيلندي رهينة البيانات الاقتصادية القادمة، ومدى قدرة الاقتصاد المحلي على استعادة زخمه دون المخاطرة بفقدان السيطرة على الأسعار.

تم التحديث في: الأربعاء, 08 تشرين الأول 2025 10:38
حقوق النشر © جميع الحقوق محفوظة لشركة أصول