سيناريوهات وتحليل لتداعيات طرح العملة السورية الجديدة وحذف الصفرين وتأثر سعر الصرف

تعيش الساحة الاقتصادية السورية حالة ترقب غير مسبوقة، مع اقتراب طرح العملة الوطنية الجديدة، في خطوة تُعد من أكثر القرارات النقدية حساسية منذ أكثر من عقد.

 

وتتقاطع في هذا الملف آمال شعبية بتحقيق انفراج معيشي ولو مؤقت، مع مخاوف اقتصادية عميقة من أن يتحول الإجراء إلى مجرد تغيير شكلي في الأرقام، لا يلامس جوهر الأزمة البنيوية التي تعاني منها الليرة والاقتصاد السوري ككل.

 

فحذف الصفرين لا يُنظر إليه فقط كخطوة فنية في السياسة النقدية، بل كاختبار حقيقي لقدرة الدولة على استعادة الثقة بالعملة الوطنية، وضبط التضخم، وتحسين القوة الشرائية، في بيئة ما تزال مثقلة بتداعيات الانهيار الاقتصادي، وضعف الإنتاج، وتشوهات السوق، واستمرار الدولرة.

أولاً: سعر الصرف… لماذا لا يكفي حذف الأصفار؟

يرى الباحث الاقتصادي إيهاب اسمندر أن النقاش حول سعر صرف الليرة الجديدة يجب أن ينطلق من فهم أن التصفير لا يُنتج قيمة اقتصادية بحد ذاته، ولا يشكل ضمانة لاستقرار العملة، إذ إن السعر الحقيقي للعملة لا يُحدد بالأرقام المطبوعة عليها، بل بقوتها الفعلية داخل الاقتصاد.

 

ويؤكد اسمندر أن التنبؤ بمسار سعر الصرف بعد طرح العملة الجديدة مسألة بالغة التعقيد، لأنها ترتبط بحزمة واسعة من العوامل المتداخلة، في مقدمتها:

  • طبيعة السياسات المالية والنقدية المتبعة

  • حجم الكتلة النقدية المطروحة مقابل الاحتياطيات الأجنبية

  • مستوى العجز في الموازنة العامة

  • قدرة الاقتصاد على الإنتاج والتصدير

  • درجة الثقة المحلية والدولية

ويحذر من أن أي تغيير شكلي لا يرافقه إصلاح هيكلي عميق سيُبقي الليرة عرضة للضغط، بل وقد يسرّع من تآكل قيمتها في حال أُسيء استخدام العملة الجديدة كأداة تمويل غير منضبطة.

ثانياً: عوامل الضغط على الليرة الجديدة

يشير اسمندر إلى مجموعة من العوامل التي قد تقود إلى تراجع قيمة الليرة الجديدة، أبرزها:

1. غياب الإصلاحات الهيكلية

في حال اقتصر الإجراء على تغيير اسم العملة أو حذف الأصفار دون معالجة الأسباب الجذرية للتضخم، مثل العجز المالي المزمن وطباعة النقود لتمويل الإنفاق الحكومي، فإن النتيجة ستكون إعادة إنتاج الأزمة بشكل مختلف.

2. ضعف الثقة العامة

الثقة هي العمود الفقري لأي عملة. فإذا لم يقتنع المواطن والقطاع الخاص بجدوى الخطوة، فإن الميل للتحوط عبر تحويل المدخرات إلى الدولار أو السلع سيزداد، ما يرفع الطلب على العملات الأجنبية ويضغط على سعر الصرف.

3. التضخم المستورد

يعتمد الاقتصاد السوري على المستوردات بنسبة تتجاوز 80% من احتياجاته الأساسية، ما يعني أن أي ارتفاع في أسعار السلع عالمياً أو في دول المنشأ ينتقل مباشرة إلى السوق المحلية، ويغذي التضخم الداخلي بغض النظر عن شكل العملة.

4. ضعف الإنتاج والتصدير

غياب قاعدة إنتاجية قوية يجعل العملة بلا غطاء حقيقي، ويُبقي ميزان المدفوعات تحت ضغط دائم.

ثالثاً: الرؤية المصرفية… تضخم محدود بشروط

في المقابل، تقلل مصادر مصرفية من المخاوف المرتبطة بالتضخم، مؤكدة أن حذف الصفرين لا يتضمن زيادة في الكتلة النقدية، وأن المصرف المركزي لن يلجأ إلى الطباعة العشوائية. وترى هذه المصادر أن الأزمة النقدية السابقة كانت ذات طابع سياسي بالدرجة الأولى، وأن المناخ الخارجي الحالي يتيح فرصة لاعتماد سياسات اقتصادية أكثر فاعلية.

 

لكن هذه الرؤية تبقى مشروطة بمدى التزام المصرف المركزي بالانضباط النقدي، وقدرته على مقاومة الضغوط التمويلية، خاصة في ظل احتياجات مالية كبيرة للدولة.

رابعاً: عوامل قد تمنح الليرة فرصة تنفس

على الرغم من المخاطر، لا ينفي الخبراء وجود عوامل قد تدعم الليرة الجديدة، ولو بشكل مؤقت، أبرزها:

الأثر النفسي الإيجابي

طرح عملة جديدة يمنح شعوراً رمزياً ببداية مرحلة مختلفة، وقد يشجع على استخدامها في التعاملات اليومية بدلاً من الدولار لفترة زمنية محدودة.

الإجراءات المرافقة المحتملة

في حال رافق الإصلاح النقدي حزمة سياسات متكاملة، مثل:

  • رفع أسعار الفائدة على الودائع بالليرة

  • إصدار أدوات دين محلية لسحب السيولة

  • تشديد الرقابة على تهريب العملة

  • تحسين إدارة الحدود والتجارة

فإن ذلك قد يعزز الطلب على الليرة ويحد من المضاربة.

الدعم الخارجي والاستثمارات

أي تدفق للاستثمارات أو خطوط ائتمانية خارجية سيعزز الاحتياطيات الأجنبية، ويمنح المصرف المركزي مساحة أوسع للدفاع عن العملة.

خامساً: ثلاثة سيناريوهات محتملة لسعر الصرف

يرسم اسمندر ثلاثة مسارات رئيسية لمستقبل الليرة الجديدة:

السيناريو المتفائل (ضعيف الاحتمال حالياً)

استقرار نسبي لسعر الصرف في حال ترافق طرح العملة مع إصلاح اقتصادي شامل، وضبط صارم للسيولة، وتحسن ملموس في الإنتاج.

السيناريو الواقعي (الأرجح)

تحسن نفسي قصير الأمد، يتبعه تراجع تدريجي نتيجة استمرار العوامل التضخمية الأساسية دون معالجة جذرية.

السيناريو المتشائم

فقدان الثقة بالعملة الجديدة في حال استخدامها لتمويل العجز عبر الطباعة، ما يؤدي إلى تدهور أسرع في سعر الصرف مقارنة بالمرحلة السابقة.

سادساً: قاعدة التصفير بين النظرية والواقع

يوضح الباحث الاقتصادي خالد التركاوي أن التصفير من الناحية النظرية لا يغير القوة الحقيقية للعملة، لكنه عملياً يتأثر بعوامل السوق، وعلى رأسها العرض والطلب ومدى القبول الشعبي.

 

ويؤكد أن قبول العملة الجديدة في جميع المناطق السورية عنصر حاسم، إذ إن أي رفض أو تردد في التداول سيخلق تشوهات سعرية ويضعف قيمتها. كما يشدد على أهمية دور المصرف المركزي في إدارة الكتلة النقدية، حيث إن خفض المعروض يعزز القيمة، بينما يؤدي التوسع غير المدروس إلى نتائج عكسية.

سابعاً: لماذا حذف صفرين تحديداً؟

يرى المستشار المالي محمد ناصر حمو أن حذف الصفرين يمثل حلاً وسطياً، يوازن بين تسهيل التعاملات وتقليل التضخم الظاهري، دون التسبب بصدمة سعرية أو تعقيدات محاسبية كبيرة.

 

ويؤكد أن حذف صفر واحد غير كافٍ، بينما حذف ثلاثة أصفار قد يخلق ارتباكاً واسعاً في التسعير، ويستدعي إصدار فئات جديدة بتكاليف إضافية.

ثامناً: التضخم والقوة الشرائية… الواقع والنفسية

رغم أن المعروض النقدي الحقيقي لن يتغير، إلا أن صغر الأرقام وسهولة قراءتها قد يمنح شعوراً نفسياً بتحسن القوة الشرائية. غير أن هذا التحسن يبقى هشاً، ومرتبطاً بقدرة الدولة على:

  • ضبط العجز المالي

  • منع الطباعة غير المغطاة

  • تحسين الإنتاج المحلي

  • جذب العملات الأجنبية

ويحذر الخبراء من أن أي إخلال بهذه الشروط قد يحول الأثر النفسي الإيجابي إلى موجة تضخم جديدة.

تاسعاً: فترة التعايش بين العملتين

تشير التقديرات إلى أن فترة التعايش قد تمتد من عدة أشهر إلى سنوات، بحسب مستوى الثقة وسلاسة التوزيع وسرعة سحب العملة القديمة. ويجمع الخبراء على أن تقصير هذه الفترة يقلل المضاربة والارتباك السعري، شريطة تنظيم حملات توعوية شاملة.

 

خلاصة نهائية

العملة السورية الجديدة ليست عصاً سحرية، بل أداة ضمن منظومة اقتصادية أوسع. ونجاحها أو فشلها سيعتمد على ما يرافقها من سياسات إصلاحية حقيقية. دون ذلك، ستبقى خطوة التصفير إجراءً شكلياً بأثر نفسي مؤقت، سرعان ما تبتلعه ضغوط الواقع الاقتصادي.

 

أما إذا أُحسن استخدامها ضمن برنامج إصلاح شامل، فقد تشكل نقطة انطلاق نحو استعادة تدريجية للثقة المفقودة بالليرة والاقتصاد الوطني.

 
تم التحديث في: الخميس, 25 كانون الأول 2025 12:54
حقوق النشر © جميع الحقوق محفوظة لشركة أصول