الدولار النيوزيلندي يقفز إلى أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع مدفوعاً بنبرة البنك المركزي المتشددة

يشهد الدولار النيوزيلندي حالة من الزخم الإيجابي اللافت في أسواق العملات العالمية، بعدما سجل ارتفاعاً قوياً أوصله إلى أعلى مستوى له في ثلاثة أسابيع، مدعوماً بتسارع عمليات الشراء واتساع قاعدة المستثمرين الباحثين عن فرص استثمارية في العملات ذات العائد المرتفع، وسط تحولات دقيقة في السياسة النقدية لبنك الاحتياطي النيوزيلندي.

 

وجاء هذا الأداء في وقت حساس تتسم فيه الأسواق العالمية بحذر متزايد وترقب لقرارات البنوك المركزية الكبرى، ما جعل أي إشارة صادرة عن البنك النيوزيلندي تحظى باهتمام خاص من قبل المتداولين والمحللين والمؤسسات المالية.

أداء الدولار النيوزيلندي اليوم

ارتفع الدولار النيوزيلندي على نطاق واسع خلال تعاملات يوم الأربعاء مقابل سلة من العملات الرئيسية والثانوية، ليواصل سلسلة مكاسبه لليوم الثاني على التوالي أمام نظيره الأمريكي، في ظل زيادة واضحة في شهية المخاطرة وعودة اهتمام المستثمرين بالأصول المرتبطة بالاقتصادات ذات الأساسيات المستقرة نسبياً.

 

وسجلت العملة النيوزيلندية أعلى مستوياتها في ثلاثة أسابيع، مدفوعة بتوقعات بأن السياسة النقدية المقبلة ستتجه نحو مزيد من الانضباط والتشدد النسبي، رغم خفض أسعار الفائدة المعلن.

 

ورأت الأسواق في النبرة المتشددة التي اعتمدها بنك الاحتياطي النيوزيلندي إشارة إيجابية تعكس ثقة في مسار التعافي الاقتصادي، وتأكيداً على أن خطوات التيسير النقدي لن تستمر إلى ما لا نهاية، بل ستظل محكومة بميزان دقيق بين دعم النمو وكبح التضخم.

أسعار الفائدة في نيوزيلندا

أعلن بنك الاحتياطي النيوزيلندي خفض معدل النقد الرسمي بمقدار 25 نقطة أساس ليصل إلى 2.25%، وهو القرار الذي جاء متوافقاً مع التوقعات السائدة في الأسواق المالية. ويعد هذا الخفض امتداداً لدورة التيسير النقدي التي انطلقت قبل عام، والتي شهدت خلالها البلاد سلسلة من التخفيضات بلغ مجموعها 325 نقطة أساس منذ أغسطس 2024.

 

وكان البنك قد أقدم في الشهر السابق على خفض أكبر بمقدار 50 نقطة أساس، ما يعكس مرونة نهجه واستعداده للتدخل بقوة عندما تستدعي الظروف الاقتصادية ذلك. وقد صوتت لجنة السياسة النقدية بأغلبية خمسة أعضاء مقابل عضو واحد لصالح خفض الفائدة، بعد دراسة مستفيضة لخياري الإبقاء على السعر دون تغيير أو خفضه بشكل محدود.

 

وبرر البنك قراره بوجود طاقة احتياطية واسعة داخل الاقتصاد، إلى جانب اعتدال الضغوط التضخمية وظهور مؤشرات على تباطؤ النمو، وهو ما أتاح له مساحة لمواصلة دعم التعافي الاقتصادي الهش دون المخاطرة بعودة التضخم إلى مستويات مقلقة.

التضخم بين الحدود المستهدفة ومسار متوازن نحو الاستقرار

أشار البنك المركزي إلى أن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين ارتفع إلى 3% خلال الربع الثالث، وهو الحد الأعلى من النطاق المستهدف البالغ بين 1% و3%، إلا أن التضخم الأساسي وتضخم السلع غير القابلة للتداول واصلا التراجع، ما يعكس انحسار الضغوط السعرية الكامنة.

 

وأكد البنك أن ضعف الطلب المحلي والتراخي الملحوظ في سوق العمل من شأنهما أن يساهما في إعادة التضخم إلى مستويات قريبة من 2% بحلول منتصف عام 2026، وهو المستوى الذي يعتبره صناع القرار النقدي متوافقاً مع استقرار الأسعار على المدى المتوسط.

تباطؤ اقتصادي مؤقت وتحسن تدريجي في المؤشرات الكلية

شهد الاقتصاد النيوزيلندي تباطؤاً ملحوظاً خلال منتصف عام 2025، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.9% في الربع الثاني، إلا أن البنك المركزي أشار إلى أن هذه القراءة قد تكون مبالغاً فيها نتيجة عوامل إحصائية مؤقتة لا تعكس بالضرورة التوجه الأساسي للاقتصاد.

 

وفي المقابل، أظهرت المؤشرات الأخيرة بوادر استقرار في الطلب، وتعزيزاً تدريجياً للإنفاق الأسري، إلى جانب تحسن أولي في ظروف سوق العمل، ما يعكس بداية تعافٍ بطيء لكنه ثابت بعد فترة من الضغوط الاقتصادية.

 

كما أوضح البنك أن خفض أسعار الفائدة بدأ ينعكس فعلياً على الاقتصاد من خلال تراجع معدلات الرهن العقاري، وهو ما خفف الأعباء المالية عن كاهل الأسر وساهم في دعم القدرة الاستهلاكية، فضلاً عن أن تراجع الدولار النيوزيلندي منذ أغسطس قد وفر دعماً إضافياً لقطاع الصادرات وعزز تنافسيته في الأسواق العالمية.

أداء الدولار النيوزيلندي في الأسواق المالية

سجل الدولار النيوزيلندي ارتفاعاً بنسبة 1.4% مقابل الدولار الأمريكي ليصل إلى مستوى 0.5697، وهو الأعلى منذ الرابع من نوفمبر الجاري، مقارنة بسعر افتتاح بلغ 0.5618، فيما تم تسجيل أدنى مستوى عند 0.5616.

 

وكان قد أنهى تعاملات الثلاثاء مرتفعاً بنسبة 0.2%، محققاً ثاني مكاسب له خلال الأيام الثلاثة الأخيرة، مدعوماً بتراجع مستويات العملة الأمريكية وتحسن شهية المستثمرين للمخاطرة.

أدنى مستوى للفائدة منذ ثلاث سنوات

وصل سعر الفائدة القياسي إلى أدنى مستوياته منذ مايو 2022، وهو ما يعكس عمق دورة التيسير النقدي التي انتهجها البنك المركزي لمواجهة التباطؤ الاقتصادي وضعف سوق العمل واعتدال التضخم. ويعد هذا الخفض التاسع منذ انطلاق هذه الدورة، والثالث على التوالي، في تأكيد إضافي على توجه داعم للنشاط الاقتصادي.

 

جاء قرار الفائدة ضمن آخر بيان للسياسة النقدية يصدر برئاسة المحافظ كريستيان وكسبي، قبل تسليم منصبه للاقتصادية السويدية آنا بريمان في ديسمبر المقبل. وقد أكد البنك في بيانه أن التحركات المستقبلية في سعر الفائدة ستعتمد بشكل أساسي على تطور آفاق التضخم والنمو، مع الإشارة إلى أن المخاطر المحيطة بهذه التوقعات لا تزال متوازنة.

 

وأوضح البيان أن الاقتصاد، رغم ما مر به من تباطؤ خلال منتصف العام، يظهر إشارات تحسن تدريجي بدعم من انخفاض أسعار الفائدة، الأمر الذي يشجع الأسر على زيادة الإنفاق ويعزز مستويات الثقة.

 

أكد كريستيان وكسبي في المؤتمر الصحفي أن التوقعات الحالية تنطوي على ميل طفيف نحو الانخفاض، إلا أن المسار العام للسياسة النقدية يعكس توجهاً أكثر تشدداً مقارنة بما كان متوقعاً سابقاً. وأوضح أن البنك يتوقع استقرار سعر الفائدة النقدي حتى عام 2026، مع إبقاء كل الخيارات مفتوحة للتعامل مع أي تغيرات مفاجئة في المشهد الاقتصادي.

 

ويتوقع البنك أن يبلغ سعر الفائدة 2.20% في الربع الأول من عام 2026 و2.65% في الربع الأخير من عام 2027، وهي مستويات أقل من التوقعات السابقة، لكنها تشير إلى أن باب المزيد من التيسير قد أُغلق تقريباً، ما يعزز ثقة الأسواق في استقرار السياسة النقدية.

 

عقب إعلان خفض الفائدة، ارتفع الدولار النيوزيلندي مستفيداً من اعتقاد الأسواق بأن دورة التخفيضات قد اقتربت من نهايتها. وتراجعت احتمالات خفض إضافي بمقدار 25 نقطة أساس في اجتماع فبراير 2026 إلى أقل من 20%، فيما تشير العقود الآجلة إلى استقرار الفائدة عند مستوى 2.25% حتى نهاية عام 2026.

آراء وتحليلات الخبراء الاقتصاديين

قال نيك توفلي، كبير الاقتصاديين في بنك ASB، إن المجال المتاح لمزيد من التيسير النقدي أصبح أضيق بكثير مما كان يعتقد سابقاً، موضحاً أن بنك الاحتياطي النيوزيلندي أظهر درجة عالية من الحذر والانضباط، وأن أي تخفيض إضافي سيكون مرهوناً بتدهور واضح في أداء الاقتصاد.

 

من جهته، أشار دوغ ستيل، كبير الاقتصاديين في بنك نيوزيلندا، إلى أن العائق أمام اتخاذ خطوات تيسيرية جديدة يبدو مرتفعاً، مؤكداً أن البيانات الاقتصادية يجب أن تسجل مفاجآت سلبية كبيرة حتى تدفع البنك إلى إعادة النظر في سياسته الحالية.

 

خلاصة المشهد الاقتصادي والنقدي

يعكس هذا المشهد المتكامل توازناً دقيقاً بين دعم التعافي الاقتصادي والحفاظ على استقرار الأسعار، حيث يسعى بنك الاحتياطي النيوزيلندي إلى إدارة السياسة النقدية بحذر مدروس يراعي تحولات التضخم وسوق العمل والنشاط الاقتصادي.

 

وفي المقابل، يواصل الدولار النيوزيلندي الاستفادة من هذه البيئة المتوازنة، مدعوماً بثقة المستثمرين وتوقعاتهم باستقرار السياسة النقدية خلال المرحلة المقبلة، مع الإبقاء على كل السيناريوهات مفتوحة لمواجهة أي تطورات غير متوقعة على الصعيدين المحلي والعالمي.

تم التحديث في: الأربعاء, 26 تشرين الثاني 2025 11:44
حقوق النشر © جميع الحقوق محفوظة لشركة أصول