مباحثات بين سوريا وصندوق النقد الدولي حول سبل تقوية الإدارة المالية وإعادة بناء العلاقات الاقتصادية الدولية

في خطوة تعكس تحوّلاً لافتاً في مقاربة دمشق للملف المالي والاقتصادي الدولي، شهدت العاصمة الأميركية واشنطن سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى بين مسؤولين سوريين وقيادات في صندوق النقد الدولي ومؤسسات اقتصادية عالمية.

 

وجاءت هذه المباحثات في إطار الاجتماعات السنوية المشتركة لصندوق النقد والبنك الدوليين، التي شاركت فيها سوريا بوفد رسمي يضم وزير المالية محمد برنية وحاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر الحصرية، إلى جانب وزير الاقتصاد والصناعة نضال الشعار.


وتُعد هذه اللقاءات مؤشراً على انفتاح تدريجي من قبل المؤسسات المالية الدولية على الملف السوري، واهتماماً متزايداً بإعادة إدماج الاقتصاد السوري ضمن المنظومة الاقتصادية العالمية، بعد سنوات من العزلة والعقوبات.

اجتماع بين وزارة المالية السورية وصندوق النقد الدولي

عقد وزير المالية السوري محمد برنية وحاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر الحصرية اجتماعاً موسعاً مع طاقم دائرة شؤون المالية العامة في صندوق النقد الدولي، ورئيس بعثة الصندوق إلى سوريا، إضافة إلى كبار المديرين والفنيين في الدائرة، وذلك على هامش اجتماعات الصندوق والبنك الدوليين في واشنطن.

 

وأكد الوزير برنية عبر صفحته على فيسبوك أن هذا اللقاء يمثل «انعكاساً واضحاً لاهتمام صندوق النقد الدولي بالتعاون مع سوريا»، مشيراً إلى أن المشاركين في الاجتماع أشادوا بالتقدم الذي حققته الحكومة السورية في مسار الإصلاح المالي خلال العامين الماضيين، رغم التحديات الاقتصادية والضغوط الخارجية.

الإصلاح الضريبي والجمركي والإدارة المالية

تركزت المباحثات على خطة الإصلاح الضريبي التي شرعت سوريا في تنفيذها، حيث ناقش الجانبان آفاق دعم الصندوق لهذه الخطة بما يعزز الشفافية ويزيد من كفاءة تحصيل الإيرادات العامة.

 

كما تم التطرق إلى الإصلاح الجمركي وآليات تسهيل حركة التجارة وتحسين إدارة الجمارك، إلى جانب التحضير لإيفاد بعثة فنية من الصندوق إلى سوريا خلال الأشهر المقبلة لتقديم دعم فني متخصص في هذا المجال.

 

ووفقاً لتصريحات برنية، فقد بحث الاجتماع أيضاً سبل تقوية الإدارة المالية الحكومية، بما في ذلك التحضير المبكر لموازنة عام 2026، وتعزيز قدرات وزارة المالية في إصلاح الشركات الاقتصادية المملوكة للدولة، بهدف رفع كفاءتها وتحسين إيراداتها العامة.

 

كما شملت المباحثات فرص التعاون في تطوير إدارة الدين العام السوري، وتنظيم عمل مكتب الدين العام في وزارة المالية بما يتماشى مع المعايير الدولية، لضمان شفافية أكبر في إدارة الالتزامات المالية للدولة.

بناء القدرات والتعاون الفني والتدريب

خلال الاجتماع، شدد وزير المالية السوري على أهمية برامج التدريب وبناء القدرات في مجالات المالية العامة والإدارة الضريبية والإصلاح المؤسسي. وأعلن أن أربع بعثات فنية من صندوق النقد الدولي ستزور سوريا خلال الأشهر القادمة، لتقديم الدعم في مجالات الإدارة المالية العامة، والتحديث الضريبي، والحوكمة المالية.

 

كما أوضح برنية أن النقاشات اقتصرت على الدعم الفني والتدريب دون التطرق إلى القروض أو برامج التمويل المشروطة، مضيفاً أن الحكومة السورية قد تدرس في مرحلة لاحقة إمكانية الانخراط في برامج أوسع مع الصندوق «عندما تكون الظروف مناسبة لذلك».

أهمية المشاركة السورية في الاجتماعات الدولية

تأتي مشاركة سوريا في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن كخطوة رمزية مهمة، تؤكد رغبة دمشق في استعادة موقعها ضمن المنظومة المالية الدولية، بعد سنوات من الانقطاع والعزلة.

 

ويُنظر إلى هذه المشاركة على أنها مؤشر على تزايد انفتاح المؤسسات الدولية على مناقشة الملف السوري بجدّية، خصوصاً في ظل التحديات الاقتصادية الإقليمية والدولية الراهنة.

لقاءات وزير الاقتصاد السوري في واشنطن

بالتوازي مع لقاءات الوفد المالي، أجرى وزير الاقتصاد والصناعة السوري نضال الشعار سلسلة اجتماعات اقتصادية رفيعة في العاصمة الأميركية، في إطار مساعٍ حكومية لإعادة بناء الشراكات الدولية بعد سنوات من العقوبات.

 

وخلال لقاء موسّع مع منتدى الخليج الدولي – وهو مؤسسة بحثية مستقلة مقرها واشنطن – قدم الوزير الشعار عرضاً شاملاً عن واقع الاقتصاد السوري وآفاق انفتاحه على الأسواق الإقليمية والعالمية.

 

كما ناقش مستقبل العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج العربي ودور سوريا في تحقيق الاستقرار الإقليمي باعتبارها مركزاً جغرافياً استراتيجياً يمكن أن يشكّل قاعدة انطلاق للتنمية في المنطقة.

مباحثات مع معهد الشرق الأوسط بواشنطن

وفي لقاء آخر مع معهد الشرق الأوسط، وبحضور نخبة من كبار الاقتصاديين الأميركيين وممثلي البنوك الاستثمارية والشركات الكبرى، تناول الوزير الشعار سبل تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة في سوريا.


وأكد خلال اللقاء على رؤية الحكومة السورية لبناء نموذج اقتصادي جديد يقوم على التنويع والانفتاح والاستدامة، بحيث تصبح سوريا مركزاً حيوياً يربط بين الشرق والغرب والولايات المتحدة الأميركية، في ظل موقعها الجغرافي المتميز وقدراتها البشرية والطبيعية.

إطار حكومي لإعادة بناء العلاقات الدولية والاقتصادية

تندرج زيارة الوزير نضال الشعار ضمن إطار الجهود الحكومية لإعادة بناء شبكة العلاقات الاقتصادية الدولية بعد سنوات من العزلة السياسية والاقتصادية التي فرضتها العقوبات. وتهدف هذه التحركات إلى إحياء الشراكات التجارية والاستثمارية مع الدول والمؤسسات العالمية، وتهيئة المناخ الداخلي لجذب الاستثمارات من جديد.

 

ويُعد منتدى الخليج الدولي أحد أبرز المؤسسات التي تسعى إلى تعزيز الحوار بين دول الشرق الأوسط والولايات المتحدة، ويهدف إلى دعم السلام والتقدم والأمن والاستقرار في المنطقة.

 

وتعاون سوريا مع مثل هذه المؤسسات يعكس رغبتها في إعادة إدماج اقتصادها ضمن النظام الاقتصادي العالمي على أسس جديدة تقوم على الشفافية والانفتاح والتعاون الإقليمي.

 

تشير المباحثات السورية مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات الاقتصادية في واشنطن إلى مرحلة جديدة من الانفتاح المالي والدبلوماسي، هدفها ترسيخ التعاون الفني والاقتصادي، وبناء الثقة مع المجتمع المالي الدولي.


وفي الوقت نفسه، تعكس هذه اللقاءات إدراك الحكومة السورية لحاجة الاقتصاد الوطني إلى تحديث شامل في البنية الإدارية والمالية، وإلى إعادة تموضع في النظام الاقتصادي العالمي بعد سنوات من العزلة.


ومع استمرار الحوار الفني والتقني مع المؤسسات الدولية، قد تكون هذه الخطوات مقدمة لإطلاق مرحلة تعاون اقتصادي أوسع، تمهّد لإصلاحات أعمق تسهم في إعادة بناء الاقتصاد السوري واستعادة دوره الإقليمي والدولي.

الانعكاسات الاقتصادية المحتملة على الاقتصاد السوري وسوق الصرف المحلي

تفتح المباحثات التي أجرتها الحكومة السورية مع صندوق النقد الدولي ومؤسسات اقتصادية أميركية الباب أمام مرحلة جديدة من التفاعل الاقتصادي الدولي، وهي مرحلة تحمل في طياتها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد المحلي، وعلى سوق الصرف وأسعار العملة السورية، وكذلك على بيئة الاستثمار في البلاد.

1. تعزيز الثقة بالسياسات المالية والإصلاحية السورية

يُعد التواصل مع صندوق النقد الدولي، حتى على مستوى المساعدات الفنية دون القروض، خطوة مهمة نحو استعادة الثقة الدولية بالمؤسسات المالية السورية.


فعندما يتعاون الصندوق مع دولة ما في مجالات التدريب والإصلاح المالي والإداري، فإن ذلك يُفسَّر على نطاق واسع بأنه إشارة إيجابية للمجتمع المالي الدولي بأن تلك الدولة بدأت تسير في مسار إصلاح جدي ومدروس.


ومن شأن هذه الإشارات أن تحفز بعض رؤوس الأموال الإقليمية والعربية على إعادة النظر في فرص الاستثمار داخل سوريا، خاصة في القطاعات الإنتاجية والخدمية التي يمكن أن تستفيد من أي تحسن في البنية المالية والإدارية.

2. انعكاسات محتملة على سعر الصرف واستقرار الليرة السورية

رغم أن المباحثات لم تتناول برامج قروض أو دعم مالي مباشر، فإن مجرد انفتاح الحوار بين سوريا وصندوق النقد الدولي يمكن أن يخلق تأثيراً نفسياً إيجابياً في السوق المحلية.


فالتقارير الاقتصادية عادة ما تربط بين تحسن العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية وبين استقرار سعر الصرف، كونها تشير إلى احتمال تحسن السياسات النقدية وزيادة كفاءة إدارة الدين العام والاحتياطيات.

 

كما أن تفعيل برامج الإصلاح المالي والضريبي والجمركي من شأنه أن يرفع من إيرادات الدولة ويُخفف الضغط على السياسة النقدية، وهو ما قد ينعكس تدريجياً في صورة استقرار نسبي لليرة السورية وتراجع في معدلات التضخم، خاصة إذا ترافق ذلك مع تحسن في الصادرات أو انفتاح في العلاقات التجارية الإقليمية.

3. فرص لإعادة بناء البنية المالية والاقتصادية

اللقاءات مع صندوق النقد الدولي ومعاهد مثل منتدى الخليج الدولي ومعهد الشرق الأوسط تتيح لسوريا فرصة نادرة لتبادل الخبرات الفنية والتقنية في مجالات إدارة الدين العام، وتحديث النظام الضريبي، وإصلاح المؤسسات الاقتصادية الحكومية.


هذه الخطوات لا تنعكس فقط على الميزانية العامة، بل يمكن أن تشكّل الأساس لإعادة بناء هيكل الاقتصاد السوري على أسس عصرية، تراعي مبادئ الكفاءة والحوكمة والشفافية.


كما أن التحضير لموازنة عام 2026 بمساعدة فنية دولية قد يُسهم في تحسين آليات إعداد الموازنات المستقبلية، وضمان توزيع أكثر عدالة وكفاءة للموارد العامة.

4. تأثيرات طويلة الأمد على بيئة الاستثمار المحلي والأجنبي

إذا استمرت اللقاءات بين سوريا والمؤسسات الدولية في الاتجاه ذاته، فقد يشهد الاقتصاد السوري خلال السنوات المقبلة تحسناً تدريجياً في بيئة الاستثمار.


فالمستثمرون الأجانب عادة ما يترقبون إشارات من المؤسسات الدولية قبل الدخول في أسواق جديدة أو عالية المخاطر.


وبالتالي، فإن أي تعاون فني أو مؤسسي مع صندوق النقد الدولي يُعد بمثابة شهادة ثقة نسبية، حتى وإن لم يرافقه تمويل مباشر.


كما أن إصلاح الشركات المملوكة للدولة ورفع كفاءتها يمكن أن يجذب الشركاء الدوليين لإبرام شراكات تنموية أو صناعية جديدة، خاصة في مجالات الطاقة، والبنى التحتية، والخدمات اللوجستية.

5. التحديات القائمة والآفاق المستقبلية

رغم التفاؤل النسبي الذي تثيره هذه المباحثات، فإن التحديات أمام الاقتصاد السوري لا تزال كبيرة.


فإعادة بناء الثقة تتطلب إصلاحات داخلية شاملة في بيئة الأعمال، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتحسين مناخ الاستثمار، إلى جانب إعادة تأهيل البنية المصرفية وتعزيز الشفافية في إدارة الموارد العامة.


كما أن استمرار العقوبات الاقتصادية على بعض القطاعات الحيوية يشكّل عائقاً أمام سرعة تعافي الاقتصاد.


لكن في المقابل، فإن استمرار الحوار الفني مع صندوق النقد الدولي يمكن أن يوفّر إطاراً مرجعياً للإصلاح التدريجي، ويُعيد دمج الاقتصاد السوري في المنظومة الاقتصادية الإقليمية والدولية بشكل متوازن ومدروس.

خلاصة تحليلية

تدل المباحثات التي أجرتها سوريا في واشنطن على أن البلاد بدأت تخطو بحذر نحو إعادة التموضع الاقتصادي الدولي.


فالتعاون الفني مع صندوق النقد الدولي، إلى جانب فتح قنوات حوار مع المؤسسات البحثية والاقتصادية الأميركية، يشير إلى رغبة حقيقية في بناء اقتصاد أكثر استقراراً وشفافية.


وإذا ما تم استثمار هذه الفرص بجدّية، فإن المرحلة المقبلة قد تشهد تطورات إيجابية في الإدارة المالية والضريبية والنقدية، تمهيداً لتأسيس بيئة اقتصادية جديدة تسهم في تعزيز الاستقرار المالي والنقدي، ودعم الليرة السورية، وجذب الاستثمارات نحو إعادة إعمار البلاد.

تم التحديث في: الخميس, 16 تشرين الأول 2025 10:57
حقوق النشر © جميع الحقوق محفوظة لشركة أصول