البنك الدولي يتوقع نمو الاقتصاد السوري بنسبة 1% في عام 2025 بعد تاريخ طويل من الانكماش

بعد أكثر من اثني عشر عامًا من الحرب والأزمات الاقتصادية والمالية، يدخل الاقتصاد السوري عام 2025 وهو يقف على أعتاب تحسن محدود لكنه بالغ الأهمية، وفق تقرير جديد صادر عن البنك الدولي.
التقرير يتوقع نموًا حقيقيًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1% خلال عام 2025، بعد انكماش بنحو 1.5% في عام 2024، وهي أول إشارة لتعافٍ اقتصادي منذ عام 2022.


لكن البنك الدولي يحذر من أن هذا النمو يبقى هشًا ومشروطًا بعوامل متعددة، أبرزها تخفيف العقوبات الغربية، وتحسن قطاع الطاقة، وعودة اللاجئين، وزيادة الدعم الدولي، إلى جانب استقرار أمني ومؤسسي طويل الأمد.

 

ويشير التقرير إلى أن أي تقدم اقتصادي مستدام في سوريا سيبقى مستحيلًا دون معالجة الجذور البنيوية للأزمة، بما في ذلك ضعف المؤسسات، تآكل البنية التحتية، وانكماش الطبقة الوسطى التي كانت تمثل العمود الفقري للنشاط الاقتصادي السوري قبل عام 2011.

تاريخ طويل من انكماش الاقتصاد السوري

منذ عام 2010 وحتى عام 2022، انكمش الاقتصاد السوري بنسبة 53% وفقًا للبنك الدولي، لتتحول سوريا رسميًا إلى دولة منخفضة الدخل منذ عام 2018.


وتشير تحليلات صور الأقمار الصناعية التي ترصد “أضواء الليل” (Night Light Data) إلى أن النشاط الاقتصادي الفعلي قد يكون تراجع بأكثر من 60%، وهو ما يعكس الدمار العميق في البنى التحتية الصناعية والخدمية.


تأثرت قطاعات رئيسية مثل الطاقة، السياحة، النقل، الزراعة، والصناعة التحويلية، حيث تراجع إنتاج النفط من أكثر من 380 ألف برميل يوميًا عام 2010 إلى أقل من 25 ألف برميل في 2024.

 

كما أدت الحرب والعقوبات المتتالية إلى تدهور قيمة الليرة السورية بأكثر من 99% خلال عقد واحد، وتراجع متوسط الدخل الشهري إلى أدنى مستوياته في المنطقة. ومع توقف الاستثمارات الأجنبية وهجرة رؤوس الأموال، أصبح الاقتصاد السوري يعتمد بشكل شبه كامل على التحويلات الخارجية وتجارة السلع الأساسية.

تحول سياسي غير مسبوق في نهاية 2024 وتأثيره الاقتصادي

شهدت سوريا تغيرًا جذريًا في المشهد السياسي في ديسمبر/كانون الأول 2024 بعد الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، وتشكيل حكومة انتقالية جديدة بإشراف أممي ودعم من قوى إقليمية.


التقرير يشير إلى أن الحكومة الجديدة تسيطر على مناطق تضم 78% من السكان ونحو 60% من النشاط الاقتصادي، لكنها لا تسيطر إلا على 9% من إنتاج النفط الذي بقي تحت نفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي.


ورغم أن التغيير السياسي أعاد الأمل بمرحلة جديدة من التعافي، إلا أن البلاد لا تزال تواجه توترات أمنية حادة واشتباكات محلية، بالإضافة إلى استمرار الغارات الجوية الإسرائيلية على مواقع عسكرية في الداخل السوري.

 

المحللون الاقتصاديون يرون أن الاستقرار السياسي النسبي قد يسهم في إعادة تنشيط قطاعات حيوية مثل الزراعة والتجارة الداخلية، لكنه سيظل غير كافٍ ما لم يترافق مع إصلاح مؤسسات الدولة وتوحيد السياسات النقدية والمالية بين المناطق المختلفة.

الليرة السورية تستعيد جزءًا من قيمتها لأول مرة منذ سنوات

على الصعيد النقدي، سجلت الليرة السورية ارتفاعًا بنسبة 29% بين نوفمبر 2024 وأغسطس 2025، لتصبح واحدة من أفضل فتراتها منذ عام 2019.


البنك الدولي يعزو هذا التحسن إلى تخفيف جزئي للعقوبات الأوروبية والأمريكية، وإلى عودة تدريجية للمغتربين السوريين الذين ضخّوا تحويلات مالية كبيرة بالعملة الأجنبية.


كما ساهمت زيادة التجارة مع تركيا والعراق ولبنان في استقرار نسبي لسعر الصرف، إلى جانب إجراءات البنك المركزي لتقييد المضاربة وتنظيم حركة الاستيراد.

 

ورغم ذلك، لا تزال البلاد تعاني من أزمة سيولة خانقة، إذ تفرض المصارف قيودًا صارمة على السحب النقدي، فيما تُعلق المدفوعات الإلكترونية جزئيًا، وتأخرت رواتب العاملين في القطاع العام لأشهر متتالية، ما يضعف القدرة الشرائية ويحد من أثر تحسن الليرة على الحياة اليومية للمواطنين.

المالية العامة: عجز مرتفع ودين خارجي مثير للجدل

تواجه المالية العامة السورية ضغوطًا كبيرة ناجمة عن انخفاض الإيرادات الضريبية وارتفاع الإنفاق على الدعم والخدمات الأساسية.


وقدّر البنك الدولي العجز المالي لعام 2024 بنحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى مرتفع بالنسبة لاقتصاد هش.


أما الدين الخارجي، فقد بلغت تقديرات البنك الدولي له 104% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تقول السلطات السورية إن النسبة لا تتجاوز 30.3%.

 

ويرجح الخبراء أن الفجوة بين التقديرين تعود إلى ديون غير مسجلة مرتبطة بدعم من إيران وروسيا، إضافة إلى التزامات خارجية بالعملة الصعبة لصالح موردين أجانب.


ويتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى 14.9% في عام 2025 في حال استمرار سياسات التقشف وتحسين الإيرادات عبر إعادة هيكلة النظام الضريبي وزيادة تحصيل الرسوم الجمركية.

تحسن محدود في الحساب الجاري

أظهرت البيانات تحسن الحساب الجاري من عجز 14% في 2023 إلى فائض 0.4% في 2024، مع توقع استقرار الفائض عند 0.1% في 2025.


ويعزى هذا التحسن إلى انخفاض حاد في الواردات بنسبة 38% نتيجة ضعف الطلب الداخلي وشح العملة الأجنبية، في حين ارتفعت الصادرات بنسبة 30.6% مدفوعة بزيادة تصدير المنتجات الزراعية والمعدنية الخفيفة.

 

لكن الاستثمارات الأجنبية المباشرة ظلت شبه غائبة، باستثناء بعض المشاريع الصغيرة في قطاع الطاقة الشمسية والزراعة في مناطق شمال البلاد بدعم تركي وأوروبي محدود.


ويرى البنك الدولي أن تحسن بيئة الاستثمار في سوريا مرتبط بالإصلاح القانوني والمؤسسي، وضمان الأمن والاستقرار التجاري، وهو ما يتطلب جهودًا طويلة الأمد.

التمويل الدولي وعودة اللاجئين: بين الأمل والتحدي

ارتفع التمويل الدولي المخصص لسوريا بنسبة 70% خلال النصف الأول من عام 2025 مقارنة بالعام السابق، لكنه ما زال أقل من مستويات 2023 بنحو الثلث.


ومنذ ديسمبر 2024 حتى أغسطس 2025، عاد 780 ألف لاجئ و1.7 مليون نازح داخليًا إلى مناطقهم، في أكبر حركة عودة منذ عام 2012.


وقد أسهمت هذه العودة في زيادة الطلب المحلي على السلع والخدمات والسكن، ورفعت المعروض في سوق العمل، لكنها في المقابل فاقمت الضغط على البنية التحتية والخدمات العامة التي لم تتعافَ بعد.

 

وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن العودة الجماعية للاجئين يجب أن تترافق مع خطط إعادة إعمار شاملة تشمل الإسكان والتعليم والصحة، وإلا فإن العائدين سيجدون أنفسهم ضمن دائرة الفقر مجددًا.

القطاعات الإنتاجية: نمو طفيف في الصناعة والخدمات واستقرار الزراعة

تتوقع مؤشرات البنك الدولي أن يشهد عام 2025 تحسنًا محدودًا في القطاعات الإنتاجية:

  • الصناعة: نمو بنسبة 1% بفضل تشغيل بعض المعامل الصغيرة والمتوسطة في حلب ودمشق.

  • الخدمات: نمو بنسبة 1.2% نتيجة زيادة النشاط التجاري والسياحي الداخلي.

  • الزراعة: استقرار دون نمو يُذكر، بسبب استمرار نقص الوقود والأسمدة.

في المقابل، يتوقع أن ينكمش الاستثمار الثابت بنسبة 31.4% بعد قفزة استثنائية عام 2024، ما يعكس تباطؤ مشاريع إعادة الإعمار نتيجة القيود التمويلية.
أما الاستهلاك الخاص فقد يرتفع بنسبة 20.7% مدعومًا بتحويلات المغتربين، فيما يرتفع الاستهلاك الحكومي بنسبة 13.7% استجابة للضغوط الاجتماعية المتزايدة.

الفقر والتضخم: أرقام متناقضة بين التحسن والانكماش السعري

بلغ عدد سكان سوريا 24.7 مليون نسمة في عام 2025، بمتوسط عمر متوقع 72.1 سنة، ومعدل التحاق ابتدائي 79.6%.


ورغم المؤشرات الإيجابية، فإن 48.1% من السكان يعيشون تحت خط الفقر الدولي (4.20 دولار يوميًا)، بينما 3.7 ملايين يعيشون بأقل من 3 دولارات يوميًا.


أما معدل التوظيف فبقي عند 33%، وهو مستوى منخفض يعكس عمق الركود الهيكلي.

 

من جهة أخرى، تراجع التضخم من 127.8% في عام 2023 إلى 58.1% في 2024، ومن المتوقع أن تسجل البلاد انكماشًا سعريًا بنسبة -12.7% في 2025، أي انخفاضًا عامًا في الأسعار.


ويُعد هذا الانكماش ظاهرة خطيرة إذا ارتبط بتراجع الطلب والإنتاج، إذ قد يؤدي إلى ركود اقتصادي ممتد رغم تحسن سعر الصرف.

خاتمة وتحليل اقتصادي: بين الأمل والتحديات المستقبلية

يرى البنك الدولي أن الاقتصاد السوري يقف عند مفترق طرق حاسم: فإما أن تستغل الحكومة الانتقالية بوادر التعافي لبناء اقتصاد مستدام قائم على الإنتاج والاستثمار، أو أن يعود الركود مجددًا بفعل هشاشة البنية السياسية والمؤسسية.


ويرى محللون أن تحقيق نمو حقيقي ومستدام يتطلب:

  1. توحيد المؤسسات المالية والنقدية بين جميع مناطق البلاد.

  2. إعادة هيكلة النظام الضريبي والجمركي لزيادة الإيرادات دون إرهاق القطاع الخاص.

  3. التركيز على الزراعة والصناعات الغذائية والطاقة المتجددة كقطاعات ذات أولوية.

  4. تعزيز العلاقات التجارية الإقليمية مع العراق وتركيا ولبنان والأردن.

  5. إطلاق برامج دعم للفئات الفقيرة والمتضررة من الحرب بالتعاون مع الأمم المتحدة والبنك الدولي.

وفي غياب هذه الإصلاحات، سيبقى الاقتصاد السوري رهينة الدورات السياسية والمساعدات الخارجية، ولن يتمكن من تحقيق التعافي الكامل رغم مؤشرات النمو الطفيفة لعام 2025.

تم التحديث في: الثلاثاء, 07 تشرين الأول 2025 16:32
حقوق النشر © جميع الحقوق محفوظة لشركة أصول