الليرة التركية تهبط إلى مستوى قياسي جديد أمام الدولار وسط مخاوف التضخم

تراجعت الليرة التركية إلى مستوى قياسي جديد أمام الدولار الأمريكي خلال تعاملات اليوم الثلاثاء، في ظل تصاعد القلق داخل أروقة البنك المركزي التركي بشأن استمرار الضغوط التضخمية، وتزايد التوقعات بإبطاء وتيرة خفض أسعار الفائدة بعد سلسلة من التخفيضات الجريئة خلال الأشهر الماضية.

 

تأتي هذه التطورات في وقت يسعى فيه صناع السياسة النقدية لتحقيق توازن دقيق بين دعم النمو الاقتصادي واحتواء التضخم المتفاقم.

قلق متزايد داخل أروقة البنك المركزي التركي

سجلت الليرة التركية انخفاضًا بنحو 1% خلال تعاملات الثلاثاء لتصل إلى 42 ليرة للدولار الواحد، وهو أدنى مستوى في تاريخها الحديث.


هذا الهبوط يأتي في وقت تتصاعد فيه إشارات القلق من داخل البنك المركزي التركي حول استمرار موجة التضخم المرتفعة، بالرغم من الجهود الحكومية للسيطرة على الأسعار وإعادة الثقة إلى الأسواق.

 

وبحسب ما نقلته وكالة رويترز عن أربعة من المستثمرين الأجانب الذين شاركوا في اجتماعات خاصة مع مسؤولي البنك المركزي الأسبوع الماضي، فإن محافظ البنك فاتح كرهان ونائبيه أبدوا استعدادًا لإبطاء وتيرة خفض الفائدة خلال الفترة المقبلة، في ظل "تضخم عنيد" لم يظهر إشارات كافية على التراجع.

 

وأوضح المستثمرون أن هذه الاجتماعات جاءت على هامش الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن، حيث عرض الوفد التركي موقفه من التطورات الاقتصادية الراهنة والخيارات المتاحة لمواجهة الضغوط التضخمية.

غياب التوجيهات الواضحة حول قرار الفائدة المقبل

المستثمرون الذين حضروا الاجتماعات أكدوا أن صناع السياسة النقدية لم يقدموا أي توجيهات مباشرة أو محددة حول القرار المرتقب يوم الخميس، بعد خفضين متتاليين بمقدار 250 و300 نقطة أساس في يوليو وسبتمبر الماضيين.

 

ومع ذلك، أشارت المصادر إلى أن مسؤولي البنك أكدوا أنهم يراقبون عن كثب توقعات الأسواق وتطورات الأسعار قبل اتخاذ أي خطوة جديدة، في محاولة للحفاظ على توازن دقيق بين احتواء التضخم ودعم النمو الاقتصادي المتباطئ.

 

ويرى عدد من المحللين أن غياب التوجيهات الرسمية قد يكون مؤشرًا على رغبة البنك المركزي في منح نفسه مرونة أكبر في التعامل مع المستجدات الاقتصادية، خصوصًا مع اقتراب موعد نشر بيانات التضخم الجديدة التي قد تؤثر على توجهات السياسة النقدية.

توقعات متباينة بشأن المسار النقدي المقبل

أظهر استطلاع أجرته وكالة رويترز أن معدل التضخم السنوي في تركيا ارتفع إلى 33.3% في سبتمبر، وهو أعلى من التوقعات، مما يعكس استمرار الضغوط السعرية رغم الإجراءات الحكومية. كما أن القراءات الشهرية لشهري أغسطس وسبتمبر جاءت أعلى من التقديرات، ما أثار تساؤلات حول فعالية السياسة النقدية الحالية.

 

وبحسب متوسط تقديرات الاقتصاديين، من المتوقع أن يقوم البنك المركزي بخفض الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس فقط هذا الأسبوع ليصل المعدل إلى 39.5%، في محاولة للتخفيف من وطأة الضغوط على القطاع المصرفي دون إشعال موجة جديدة من التراجع في سعر العملة.

 

لكن التوقعات لم تكن موحدة، إذ أظهر الاستطلاع انقسامًا واضحًا بين الخبراء:

  • 4 محللين توقعوا تثبيت الفائدة مؤقتًا.

  • 5 محللين رجحوا خفضًا بواقع 150 نقطة أساس.

  • 2 محللين توقعوا خفضًا أكبر يصل إلى 250 نقطة أساس.

ويعكس هذا الانقسام حالة من الغموض وعدم اليقين بشأن مدى استعداد البنك المركزي للمضي في سياسة التيسير النقدي وسط تصاعد المخاطر التضخمية.

احتمالات تعديل المسار وتأكيد على الحذر النقدي

المستثمرون الأربعة الذين تحدثوا إلى وكالة رويترز أشاروا إلى أن خفضي الفائدة السابقين كانا أكثر جرأة من المتوقع، وهو ما رفع احتمالات أن يقوم البنك بتعديل المسار أو التوقف المؤقت عن الخفض خلال الفترة القادمة.

 

وقال اثنان من المستثمرين إن صناع القرار بدوا أكثر استعدادًا لإبطاء وتيرة التيسير أو إيقافه مؤقتًا في حال أظهرت البيانات استمرار ارتفاع الأسعار.

 

وفي كلمة ألقاها محافظ البنك المركزي فاتح كرهان خلال فعالية نظمها المجلس الأطلسي في واشنطن، أكد أن "الاتجاه الهبوطي للتضخم تباطأ قليلًا مؤخرًا، ونحن نعتبر ذلك تطورًا مهمًا"، مشيرًا إلى أن البنك يتعامل مع المستجدات بحذر ومرونة.

 

وأضاف كرهان أن "التقدم المحرز نحو استقرار الأسعار حتى الآن مشجع للغاية"، مؤكدًا التزامه بمواصلة السياسة النقدية المتشددة حتى تحقيق استقرار فعلي في الأسعار، بما ينسجم مع أهداف البرنامج الاقتصادي للحكومة.

تحولات جذرية في السياسة النقدية منذ عام 2023

شهدت السياسة النقدية التركية تحولًا جذريًا ابتداءً من منتصف عام 2023، عندما قررت القيادة الاقتصادية الجديدة التخلي عن النهج غير التقليدي الذي اعتمد لسنوات طويلة على أسعار فائدة منخفضة بهدف تحفيز النمو.


هذا النهج تسبب سابقًا في ارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية وانهيار الليرة التركية، مما أجبر الحكومة على مراجعة سياساتها بشكل جذري.

 

ومنذ ذلك الحين، نجح البنك المركزي في استعادة جزء من احتياطاته من النقد الأجنبي وجذب تدفقات رأسمالية أجنبية جديدة نحو الأصول المحلية. كما بدأت مؤشرات الثقة تعود تدريجيًا للأسواق، خصوصًا مع ارتفاع مستويات الفائدة الحقيقية وتراجع العجز في الحساب الجاري.

 

ومع ذلك، لا تزال الليرة التركية تحت ضغط مستمر نتيجة ارتفاع التضخم العالمي، وتحديات السياسة النقدية الداخلية، فضلًا عن هشاشة الثقة طويلة الأمد في العملة المحلية.

رحيل وشيك لصانع سياسة متشدد يزيد الغموض

أبدى المستثمرون قلقهم من التقاعد الإجباري المرتقب لنائب المحافظ جودت أكجاي في أبريل المقبل، والذي يُعتبر أحد أكثر الأعضاء تشددًا في لجنة السياسة النقدية.


غياب أكجاي عن اللجنة قد يفتح الباب أمام توجه أكثر مرونة في السياسة النقدية، وهو ما قد يُنظر إليه من قبل الأسواق كإشارة إلى عودة المخاطر التضخمية في حال تراجعت حدة الموقف المتشدد للبنك.

 

حتى الآن، لم يتم الإعلان عن خلفٍ محتمل لأكجاي، ما يزيد من حالة الغموض وعدم اليقين حول ملامح السياسة النقدية خلال النصف الثاني من عام 2025.

تأكيد حكومي على التزام مسار الإصلاح الاقتصادي

أكد وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك أن عملية خفض التضخم تسير وفق الخطة التي وضعتها الحكومة بالتعاون مع البنك المركزي، مشيرًا إلى أن عجز الميزانية عند مستويات معقولة جدًا وفقًا للمعايير الدولية.

 

وأوضح شيمشك أن البرنامج الاقتصادي الحكومي بدأ يعطي ثماره، مع تحسن واضح في التوازن الخارجي وتراجع الضغوط على الحساب الجاري، مؤكدًا أن الحكومة تستهدف نسبة تضخم لا تتجاوز 10% مع نهاية العام المقبل في حال استمرت السياسة النقدية بنفس النهج.

تحليل مستقبلي: توقعات الليرة التركية خلال الربع الأخير من 2025

من المرجح أن تظل الليرة التركية تحت ضغوط مستمرة حتى نهاية عام 2025، في ظل استمرار المخاطر التضخمية وضعف القدرة على تحقيق استقرار دائم في الأسعار.


ويتوقع المحللون أن يتحرك سعر الصرف ضمن نطاق بين 41 و45 ليرة للدولار الواحد خلال الربع الأخير من العام، اعتمادًا على مسار أسعار الفائدة ووتيرة التراجع في معدلات التضخم.

 

أما على المدى المتوسط، فإن استمرار التشدد النقدي ونجاح الحكومة في تقليص العجز المالي قد يعيدان بعض الثقة للأسواق ويحدان من تقلبات العملة.


لكن في المقابل، فإن أي عودة إلى سياسات التيسير السريع أو تدخلات سياسية في قرارات البنك المركزي قد تؤدي إلى موجة جديدة من التراجع الحاد في قيمة الليرة، وهو السيناريو الذي تخشاه الأسواق بشدة.

 

في المجمل، تبدو التوقعات أكثر ميلًا إلى الاستقرار الحذر بدل التعافي القوي، إذ تحتاج تركيا إلى فترة أطول من الانضباط المالي والتشدد النقدي لإعادة التوازن الكامل للاقتصاد.

التحليل الفني للّيرة التركية أمام الدولار (USD/TRY)

من منظور فني، يظهر زوج الدولار/الليرة التركية (USD/TRY) استمرار الاتجاه الصاعد طويل الأمد دون مؤشرات واضحة على انعكاس قريب:

  • الدعم الرئيسي الأول: عند مستوى 41.20 ليرة لكل دولار — وهو مستوى فاصل يعكس نطاق التماسك الأخير.

  • الدعم الثاني الأقوى: عند مستوى 40.50 ليرة، والذي يشكل منطقة ارتداد محتملة في حال حدوث تصحيح محدود.

  • المقاومة الأولى: تقع عند مستوى 42.30، وهو الحاجز الذي لامسته الليرة في التداولات الأخيرة.

  • المقاومة الثانية: عند 43.00 ليرة، وفي حال اختراقها قد يتسارع الصعود نحو 44.20.

المؤشرات الفنية مثل المتوسطات المتحركة ومؤشر القوة النسبية (RSI) تظهر أن الليرة في حالة تشبع بيعي جزئي، ما قد يدفع إلى ارتداد مؤقت أو استقرار محدود قبل مواصلة الاتجاه الصعودي (هبوط العملة).
إلا أن الصورة العامة تبقى سلبية على المدى المتوسط، ما لم تظهر إشارات قوية على تدخل نقدي مباشر أو بيانات تضخم دون المتوقع.

 

خاتمة تحليلية: بين التضخم والقرارات النقدية... طريق الليرة لا يزال مليئًا بالتحديات

يبدو أن الاقتصاد التركي يقف عند مفترق طرق حاسم؛ فالبنك المركزي يواجه مهمة صعبة في تحقيق التوازن بين خفض التضخم واستقرار العملة من جهة، ودعم النمو الاقتصادي من جهة أخرى.


وفي ظل تزايد الغموض السياسي واقتراب التغييرات داخل لجنة السياسة النقدية، من المرجح أن تبقى الليرة التركية عرضة للتقلبات الحادة حتى نهاية 2025، ما يجعل التوجه العام نحو سياسة نقدية أكثر حذرًا هو الخيار الأكثر منطقية في المرحلة القادمة.

تم التحديث في: الثلاثاء, 21 تشرين الأول 2025 10:47
حقوق النشر © جميع الحقوق محفوظة لشركة أصول