سعر صرف الليرة السورية يواصل تراجعه الحاد أمام الدولار مقترباً من حاجز الـ 12 ألف ليرة للدولار
رغم ما أُعلن مؤخراً عن بوادر انفتاح اقتصادي ورفع تدريجي للعقوبات الدولية، وما تبعه من خطاب رسمي يشي بمرحلة جديدة عنوانها "تحسن المناخ الاستثماري"، فإن الليرة السورية ما تزال تواصل هبوطها أمام الدولار، مقتربة من حاجز الـ 12 ألف ليرة للدولار الواحد.
هذا المشهد لا يعكس مجرد تقلبات في سوق العملات، بل يكشف عن أزمة اقتصادية عميقة ومعقدة لم تنجح التطورات السياسية والانفتاح الخارجي في تبديدها.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم تستقر الليرة رغم هذه التحولات؟ وما الذي يجعلها مرآة دقيقة تعكس كل هشاشة الاقتصاد السوري وتناقضاته؟
رغم مؤشرات الانفتاح الاقتصادي، وما رافقه من رفع تدريجي للعقوبات الدولية وإشارات سياسية توحي بانفراج محتمل، ما تزال الليرة السورية تتأرجح في سوق الصرف، لتكشف بذلك عمق الأزمة الاقتصادية التي لم تنجح التحولات السياسية في تبديدها.
وبين التفاؤل الرسمي بإمكانية تحسّن المناخ الاستثماري، والواقع الذي تفرضه عوامل داخلية وخارجية متشابكة، يطرح سؤال جوهري نفسه: لماذا لم تستقر الليرة السورية رغم كل هذه المتغيرات؟
تراجع سعر صرف الليرة السورية رغم التفاؤل الرسمي
يواصل سعر صرف الليرة السورية تراجعه الحاد أمام الدولار الأمريكي، مقترباً من حاجز الـ 12 ألف ليرة للدولار الواحد، في ظل حالة من القلق الشعبي والارتباك الاقتصادي حيث سجل سعر الصرف حسب رصد شركة أصول للاستشارات والتداول المالي في دمشق وحلب 11600 لمبيع الدولار وسجل 11700 لشراء الدولار يوم الأربعاء الساعة 11 صباحاً بتوقيت سوريا .
ويرى خبراء اقتصاديون أن هذا الانخفاض يرتبط بشكل مباشر بقرار تبديل العملة المحلية، والذي دفع شريحة واسعة من المواطنين إلى الإقبال على شراء الدولار بكميات كبيرة تحسباً لانهيار محتمل في قيمة الليرة.
هذا السلوك عزّز منسوب الطلب على العملات الأجنبية، ليتحوّل إلى عامل ضاغط إضافي أدى إلى تفاقم الأزمة النقدية.
لم تنجح المؤشرات الإيجابية الأخيرة، مثل الحديث عن عقود استثمارية مرتقبة ورفع بعض القيود التجارية، في وقف مسار الهبوط. بل على العكس، يواصل سعر الصرف انهياره الحاد ويعزو خبراء ذلك إلى عامل نفسي مهم: فقدان الثقة الشعبية بالعملة المحلية، وهو ما دفع شرائح واسعة من المواطنين إلى التهافت على شراء الدولار تحسباً من انهيارات أكبر.
هذا الطلب المرتفع على العملات الأجنبية غذّى المضاربة في السوق السوداء، ليصبح الدولار ليس مجرد وسيلة تبادل، بل ملاذاً آمناً ومدخراً بديلاً.
انعكاسات مباشرة على الأسعار والقدرة الشرائية
أي هبوط جديد في سعر الصرف يترجم فوراً إلى ارتفاع في أسعار السلع الأساسية، من الخبز والخضار مروراً بالمواد الغذائية وصولاً إلى المحروقات والمواد الأولية وقد شهد الأسبوع الأخير ارتفاعات ملحوظة في معظم السلع، ما أرهق القدرة الشرائية للمواطنين.
المشكلة لا تقتصر على الغلاء، بل تتعمّق بفعل تأخر صرف الرواتب في عدد من المؤسسات والوزارات، ليجد الموظفون والعاملون في القطاع العام أنفسهم عاجزين عن مواجهة موجة الغلاء المتسارعة.
حالة الاستياء الشعبي مرشحة للتفاقم، خصوصاً أن الرواتب بالدخل المحلي لم تعد تغطي سوى أيام قليلة من حاجات الأسرة، بينما تتآكل قيمتها بفعل التضخم المتسارع.
اقرأ أيضاً : سوريا تستعد لإصدار أوراق نقدية جديدة مع حذف صفرين من الليرة السورية
السياسات النقدية بين القسوة والقصور
منذ سنوات، يعتمد المصرف المركزي السوري على أدوات تقليدية لضبط السوق: رفع معدلات الفائدة، التدخل المباشر في سوق القطع، ومحاولات "حبس السيولة".
ورغم أن سياسة تجميد السيولة أسهمت في كبح جماح المضاربين مؤقتاً، إلا أنها أثارت غضب التجار الذين عجزوا عن استرداد أموالهم المودعة في منصة تمويل المستوردات.
هذه المنصة تضم مليارات الليرات السورية، لكنها محجوبة عن أصحابها في محاولة لتقليل الطلب على الدولار.
النقد الموجّه لهذه السياسات أن أثرها قصير المدى، فهي تبطئ الانهيار لكنها لا تعالج جذوره. كما أن السياسة النقدية السورية تعمل في فراغ، إذ تفتقد إلى قاعدة إنتاجية قوية ترفدها باحتياطات من القطع الأجنبي، ما يجعلها محدودة الأدوات.
أخطر ما يواجه الليرة اليوم هو فقدان الثقة. المواطن السوري لم يعد يرى في عملته الوطنية وسيلة آمنة للادخار، بعد سنوات من التدهور المستمر والتجارب المريرة مع التضخم. لذلك اتجهت الغالبية إلى خيارات بديلة:
-
الدولار بوصفه الأكثر سيولة وقبولاً.
-
الذهب كملاذ تقليدي في أوقات الأزمات.
-
العقارات كخيار طويل الأمد للحفاظ على القيمة.
هذه التحولات ليست سلوكاً فردياً عابراً، بل أصبحت جزءاً من الثقافة الاقتصادية للسوريين. الليرة، في الوعي الجمعي، لم تعد رمزاً وطنياً فحسب، بل تحوّلت إلى عملة "متآكلة" تفقد قيمتها بسرعة.
الأسباب البنيوية العميقة
حتى لو رُفعت العقوبات بالكامل وغابت الضغوط الخارجية، فإن استقرار الليرة يظل صعباً من دون معالجة الأسباب البنيوية التي تعرقل الاقتصاد، وأبرزها:
-
غياب قاعدة إنتاجية قوية قادرة على توليد العملة الصعبة عبر الصادرات.
-
العجز المزمن في الميزان التجاري نتيجة الاعتماد على الاستيراد شبه الكامل للمواد الأولية والسلع الاستهلاكية.
-
ضعف التحويلات الخارجية بفعل القيود المصرفية الدولية، رغم أنها كانت تاريخياً رافداً أساسياً للعملة المحلية.
-
المضاربات في السوق السوداء التي تفوق أحياناً قدرة المصرف المركزي على الضبط.
-
الاعتماد على الاستيراد الطاقوي في ظل أزمات المحروقات، ما يخلق طلباً دائماً على الدولار.
-
غياب الاستقرار السياسي والأمني، حيث تؤدي أي أزمة أو توتر إلى موجات مضاعفة في سعر الصرف.
الانفتاح الاقتصادي وحدوده
يرى البعض أن رفع العقوبات والانفتاح الاقتصادي يمكن أن يفتح الباب أمام تدفقات مالية وتجارية جديدة. لكن الواقع أكثر تعقيداً:
-
غياب البنية التحتية القادرة على استيعاب الاستثمارات.
-
ضعف شبكة النقل والطاقة، ما يعوق انطلاقة صناعية أو زراعية حقيقية.
-
استمرار حالة عدم اليقين السياسي والأمني، ما يثني المستثمرين عن ضخ أموالهم.
بكلمات أخرى، الانفتاح الخارجي بلا إنتاج داخلي يظل أشبه بوعود مؤجلة.
الحلول الممكنة
استقرار سعر صرف الليرة يتطلب أكثر من قرارات إدارية أو إجراءات نقدية ظرفية، بل يحتاج إلى منظومة إصلاح اقتصادي شاملة، تقوم على:
-
إعادة بناء القاعدة الإنتاجية (الصناعة والزراعة) لتوليد موارد من القطع الأجنبي.
-
تحفيز الاستثمار عبر قوانين أكثر شفافية وضمانات قضائية.
-
تشجيع التحويلات الخارجية وتسهيل قنواتها الرسمية.
-
إدارة مرنة للسيولة تراعي احتياجات التجار والمستوردين.
-
محاربة المضاربة عبر أدوات رقابية حديثة، مثل أنظمة تتبع الأموال الساخنة في السوق.
-
استعادة الثقة الشعبية عبر سياسات واضحة وثابتة، لا تتغير بقرارات مفاجئة.
الخلاصة
الليرة السورية ليست مجرد ورقة نقدية، بل هي انعكاس شامل للاقتصاد والسياسة والمجتمع. وبين محاولات ضبط السيولة، وتحرير التداول، والانفتاح الاقتصادي، تبقى الحقيقة أن الثبات لن يتحقق إلا بإصلاحات بنيوية جذرية تعيد الثقة وتدفع الإنتاج.
فقط عند توفر قاعدة إنتاجية قوية، واستقرار سياسي وأمني، وبيئة استثمارية شفافة، يمكن القول إن الليرة استعادت دورها الطبيعي: رمزاً وطنياً وأداة اقتصادية تحفظ مدخرات المواطنين وتمنحهم الأمان النقدي المفقود منذ سنوات طويلة.