الجنيه الإسترليني يسجل أعلى مستوى له منذ فبراير 2022 مدفوعاً بقفزة مفاجئة في التضخم البريطاني
شهد الجنيه الإسترليني ارتفاعاً قوياً خلال تداولات يوم الأربعاء، حيث سجّل أعلى مستوى له منذ فبراير/شباط 2022 مقابل الدولار الأمريكي، وذلك مباشرة بعد صدور بيانات رسمية تشير إلى تسارع معدل التضخم في المملكة المتحدة خلال شهر أبريل/نيسان بصورة فاقت التوقعات بشكل ملحوظ.
هذا التطور المفاجئ أعاد خلط أوراق التوقعات المتعلقة بمستقبل السياسة النقدية لبنك إنجلترا، وزاد من تعقيد مهمة صناع القرار النقدي الذين يجدون أنفسهم أمام ضغوط متزايدة ناتجة عن ارتفاع الأسعار واستمرار الضغوط التضخمية، مقابل رغبة الأسواق في تخفيض أسعار الفائدة لتحفيز النمو.
التضخم البريطاني يسجل أعلى مستوى له منذ يناير 2024
أظهرت البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني البريطاني (ONS) أن مؤشر أسعار المستهلك في المملكة المتحدة ارتفع بنسبة 3.5% خلال شهر أبريل 2024 مقارنة بنفس الشهر من العام السابق، مقابل ارتفاع نسبته 2.6% في مارس 2024، ليمثل ذلك أكبر تسارع في معدل التضخم منذ يناير 2024، وأكبر زيادة شهرية في التضخم منذ عام 2022، وهو العام الذي شهد بلوغ التضخم ذروته فوق حاجز الـ10%.
هذه القفزة الكبيرة لم تكن ضمن نطاق توقعات الاقتصاديين ولا حتى التقديرات المرجعية لبنك إنجلترا، ما تسبب في حالة من الإرباك في الأسواق المالية، وتبدل مفاجئ في التوقعات المتعلقة بسيناريوهات تخفيض الفائدة.
وقد تم تفسير هذا الارتفاع غير المتوقع في الأسعار بكونه ناجماً عن مجموعة من العوامل المتراكبة ذات التأثير المؤقت والموسمي ولكن القوي في ذات الوقت، وهو ما يثير تساؤلات حول متانة مسار تباطؤ التضخم في المملكة المتحدة.
تفاصيل ارتفاع التضخم في بريطانيا
وفقاً لما ورد في بيان الإحصاء الوطني، فإن أحد أبرز العوامل المساهمة في هذه القفزة التضخمية يتمثل في ارتفاع أسعار تذاكر الطيران بنسبة ضخمة بلغت 27.5% مقارنة بشهر مارس، وذلك تزامناً مع عطلة عيد الفصح، وهو ما يُعد ثاني أعلى ارتفاع شهري في أسعار التذاكر منذ بدء الاحتفاظ بسجلات هذه البيانات، ويشير إلى عودة الضغوط الموسمية المرتبطة بالسفر والسياحة بقوة بعد فترات من الركود.
إلى جانب ذلك، شهدت أسعار الخدمات – وهي أحد المكونات الرئيسية في هيكل مؤشر أسعار المستهلك – ارتفاعاً سنوياً بنسبة 5.4%، وهو ما يُعد أعلى من التقديرات الرسمية التي وضعها بنك إنجلترا عند 5%، ما يدل على أن التضخم في الخدمات لا يزال عنيداً ومتجذراً، ويعكس استمرار الضغوط المحلية في السوق، مثل ارتفاع الأجور وتكاليف التشغيل في قطاعات كالنقل، التعليم، والسياحة الداخلية.
الجنيه الإسترليني يرتفع لأعلى مستوى في 3 سنوات
أدت هذه البيانات المفاجئة إلى رد فعل سريع في الأسواق المالية، حيث قفز الجنيه الإسترليني بنسبة 0.58% مقابل الدولار الأمريكي، ليُسجل مستوى 1.347 دولار، وهو المستوى الأعلى الذي يبلغه منذ فبراير 2022، ما يعكس تغيراً جوهرياً في شهية المستثمرين تجاه العملة البريطانية التي أصبحت أكثر جاذبية في ظل التوقعات بإبقاء أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة لفترة أطول.
أما مقابل اليورو، فقد ظل الجنيه الإسترليني مستقراً إلى حدٍّ كبير، حيث تم تداوله عند مستوى 84.325 بنس لليورو الواحد، ما يشير إلى أن التحركات الكبرى كانت موجهة بشكل أساسي نحو الدولار، مع انخفاض مؤشر الدولار العالمي بنسبة 0.62% ليصل إلى 99.5 نقطة، متأثراً بمخاوف الأسواق حيال سياسات نقدية محتملة من إدارة الرئيس "ترامب" قد تهدف إلى إضعاف الدولار.
تراجع حاد في احتمالات خفض الفائدة خلال أغسطس
قبل صدور بيانات التضخم، كانت الأسواق تسعّر احتمالية خفض بنك إنجلترا لأسعار الفائدة في اجتماع أغسطس المقبل بنسبة تقارب 60%، إلا أن هذه الاحتمالية تراجعت مباشرة بعد صدور البيانات إلى 40% فقط، بحسب ما أظهرته حركة العقود الآجلة المرتبطة بأسعار الفائدة.
وتُظهر هذه التغيرات في التوقعات مدى حساسية الأسواق لأي إشارات من البيانات الاقتصادية، كما أنها تعكس إدراكاً متزايداً بأن بنك إنجلترا قد يضطر إلى تأجيل أي خطوات نحو التيسير النقدي حتى يتأكد من استمرار انخفاض التضخم واستقرار سوق العمل.
تصريحات رسمية وتحليلات اقتصادية
في أول تعليق رسمي على بيانات التضخم، أعربت وزيرة المالية البريطانية، راشيل ريفز، عن خيبة أملها من الأرقام الصادرة، مؤكدة أن الضغوط المرتبطة بتكلفة المعيشة لا تزال ترهق الأسر البريطانية، وقالت:
"رغم أن التضخم اليوم أقل بكثير من المستويات المزدوجة التي ورثناها عن الحكومة السابقة، فإن هذه البيانات تبرهن أن الطريق نحو الاستقرار الاقتصادي لا يزال طويلاً. نحتاج إلى مضاعفة الجهود لضمان أن المواطن العادي يشعر فعلياً بانخفاض تكلفة المعيشة."
وصف باتريك أودونيل، كبير استراتيجيي الاستثمار في شركة "أومنيس"، هذه البيانات بأنها:
"مقلقة للغاية، وتستدعي وقفة جدية، إذ من المرجح أن تثير هذه الأرقام تساؤلات حقيقية حول قدرة بنك إنجلترا على المضي قدماً في خطة خفض أسعار الفائدة خلال الصيف."
أدلى كبير الاقتصاديين في بنك إنجلترا، هيو بيل، بتصريحات هامة عقب صدور البيانات، مشيراً إلى أن:
"وتيرة خفض أسعار الفائدة ربما تكون سريعة أكثر من اللازم"، وأكد أن تصويته لصالح الإبقاء على أسعار الفائدة في اجتماع هذا الشهر كان "تخطيًا مؤقتًا، وليس توقفًا دائماً".
هذا التصريح يأتي في وقت تشهد فيه لجنة السياسة النقدية انقساماً واضحاً، حيث أظهرت محاضر اجتماع 8 مايو 2024 أن عضوين من اللجنة دعما خفضاً أكبر للفائدة، في حين فضّل آخرون – من ضمنهم هيو بيل – الإبقاء عليها دون تغيير، في ظل استمرار ضغوط الأجور وتضخم الخدمات.
أما سانجاي رايا، كبير الاقتصاديين في بنك دويتشه بنك – المملكة المتحدة، فقد أوضح:
"هذه الأرقام لا تمثّل نهاية لمسار التيسير النقدي، لكنها بالتأكيد تعقّد الجدول الزمني. بينما قد تكون فرص خفض الفائدة في أغسطس قد تراجعت، لا تزال الغالبية داخل لجنة السياسة النقدية ترى أن التضخم سيتراجع، وأن سوق العمل في طريقه للتحسن، ما سيدعم تنفيذ خفض تدريجي لاحقاً."
تطورات ميدانية في سوق العمل والنمو: إشارات متباينة
أظهرت نتائج استطلاع رأي نُشر يوم الأربعاء أن أصحاب العمل في المملكة المتحدة بدأوا في خفض معدلات زيادة الرواتب، في إشارة إلى انحسار الضغوط التضخمية من جانب الأجور.
في الوقت نفسه، صدرت تقديرات أولية للناتج المحلي الإجمالي تشير إلى نمو بنسبة 0.7% في الربع الأول من 2024، وهي قراءة فاقت التوقعات، لكنها تعزى إلى عوامل وقتية، أبرزها:
-
تسارع النشاط الاقتصادي قبيل تطبيق زيادات ضريبية على الشركات المحلية في أبريل.
-
مخاوف من فرض رسوم جمركية أمريكية دفعت بعض القطاعات إلى زيادة الإنتاج مؤقتاً.
وحذر الاقتصاديون من أن هذا النمو لن يكون مستداماً في الربع الثاني، خاصة مع التحديات الهيكلية المستمرة، مثل ضعف الاستثمار وتباطؤ الاستهلاك الخاص.
الخلاصة والتحليل النهائي: الجنيه يستفيد مؤقتاً والتضخم يربك بنك إنجلترا
تكشف التطورات الأخيرة أن الجنيه الإسترليني قد يكون المستفيد المباشر من ارتفاع التضخم، لكنه في الوقت ذاته يعكس هشاشة الوضع الاقتصادي الكلي، حيث يتعين على بنك إنجلترا أن يوازن بعناية بين مواجهة التضخم المتجدد وبين تحفيز النمو عبر تخفيض أسعار الفائدة.
ومع انقسام الآراء داخل البنك المركزي، واستمرار الإشارات المتباينة من سوق العمل والبيانات الاقتصادية، من المرجح أن تظل الأسواق في حالة ترقّب دائم للبيانات المقبلة، وعلى رأسها بيانات الأجور، الإنتاج الصناعي، ومؤشرات ثقة المستهلك، لتحديد المسار المستقبلي للسياسة النقدية البريطانية.