شهد الدولار الأمريكي انخفاضًا واسع النطاق ليصل إلى أدنى مستوياته منذ سنوات، مع تزايد التوقعات بخفض أسعار الفائدة، وتصاعد التوترات السياسية حول قانون الإنفاق والضرائب الذي اقترحه الرئيس دونالد ترامب، فضلاً عن حالة التفاؤل الحذر بشأن مفاوضات تجارية دولية.
في المقابل، حقق اليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني مكاسب ملحوظة، مدعومة بعوامل اقتصادية وسياسية محلية وعالمية.
أداء الدولار الأمريكي
تراجع الدولار الأمريكي يوم الثلاثاء إلى أدنى مستوياته منذ عدة سنوات، مع ازدياد التكهنات في الأسواق بأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قد يتجه قريبًا إلى خفض أسعار الفائدة، في مسعى لدعم النمو وسط إشارات تباطؤ اقتصادي.
في الساعة 12:00 صباحًا بتوقيت تركيا، انخفض مؤشر الدولار – الذي يقيس أداء العملة الأمريكية مقابل سلة من ست عملات رئيسية – بنسبة 0.3% إلى 96.19، وهو أدنى مستوى له منذ فبراير 2022.
توقعات خفض الفائدة والضغوط السياسية
تتعزز توقعات التيسير النقدي في الولايات المتحدة بسبب استمرار الرئيس دونالد ترامب في الضغط العلني على الاحتياطي الفيدرالي لتخفيف سياسته النقدية. ففي خطوة غير مألوفة، أرسل ترامب إلى رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول قائمة بأسعار الفائدة في بنوك مركزية كبرى حول العالم، مع تعليقات مكتوبة بخط اليد تقول إن سعر الفائدة الأمريكي يجب أن يكون بين 0.5% في اليابان و1.75% في الدنمارك.
هذه الضغوط السياسية غير المسبوقة أثارت مخاوف المستثمرين بشأن استقلالية البنك المركزي الأمريكي، وهو عامل سلبي أضاف مزيدًا من الضغط على العملة الأمريكية. ويرى المحللون في ING أن الدولار يشهد حاليًا «اتجاهًا هبوطيًا منظمًا»، موضحين أن الحركة الأخيرة تأتي في سياق مسار نزولي هيكلي بدأ في أبريل الماضي، مع تحوّل الخسائر الأخيرة إلى دورية نتيجة تسعير السوق لاحتمالات خفض الفائدة المبكر.
مشروع قانون الضرائب والإنفاق يثير جدلًا في واشنطن
علاوة على ملف السياسة النقدية، يراقب المستثمرون عن كثب المناقشات السياسية في الولايات المتحدة حول مشروع قانون شامل للضرائب وخفض الإنفاق تقدم به الرئيس ترامب.
يواجه هذا المشروع معارضة حتى داخل حزبه الجمهوري، وسط مخاوف من أنه قد يضيف نحو 3.3 تريليون دولار إلى الدين الوطني. هذه الانقسامات الداخلية في الكونغرس تزيد من حالة عدم اليقين المالي، ما ينعكس سلبًا على ثقة المستثمرين بالدولار.
بيانات اقتصادية مرتقبة قد تؤثر في مسار الدولار
بحسب ING، فإن الاتجاه النزولي للدولار قد يحتاج إلى «دفعة إضافية» من الأخبار الاقتصادية الكبرى ليواصل هبوطه الحاد على المدى القصير. من المقرر أن تصدر في وقت لاحق بيانات مؤشر ISM للتصنيع لشهر يونيو، إلى جانب بيانات فرص العمل (JOLTS)، وهي مؤشرات رئيسية قد تعطي إشارات مهمة حول صحة الاقتصاد الأمريكي، وتساعد في تحديد توقعات السوق بشأن مسار الفائدة.
اليورو قرب أعلى مستوى في أربع سنوات
أداء تاريخي للعملة الأوروبية الموحدة
على الجانب الآخر من الأطلسي، أظهر اليورو قوة لافتة. انخفض سعر صرف اليورو مقابل الدولار بنسبة 0.1% إلى 1.1781، لكنه لا يزال قريبًا جدًا من أعلى مستوى في أربع سنوات عند 1.1808 الذي سجله سابقًا. وفقًا لبيانات LSEG، حققت العملة الموحدة مكاسب بنسبة 13.8% خلال النصف الأول من العام، في أقوى أداء لها على الإطلاق في تلك الفترة.
السياسات النقدية في منطقة اليورو
ينتظر المستثمرون عن كثب بيانات التضخم الأولية لمنطقة اليورو، والتي يُتوقع أن تكون قد بلغت 2% على أساس سنوي في يونيو، ما يتماشى مع هدف البنك المركزي الأوروبي. وكان المركزي الأوروبي قد خفض أسعار الفائدة للمرة الثامنة في عام واحد في وقت سابق هذا الشهر، لكنه ألمح إلى احتمال التوقف مؤقتًا عن خفضها في اجتماعه المقبل، مبررًا ذلك بعدم اليقين المتعلق بالتوترات التجارية مع الولايات المتحدة.
بيانات اقتصادية منتظرة
من المتوقع صدور أرقام مؤشرات مديري المشتريات للتصنيع في فرنسا وألمانيا ومنطقة اليورو لشهر يونيو لاحقًا، ما سيعطي صورة أوضح عن أداء القطاع الصناعي الأوروبي. كما يترقب المستثمرون تصريحات رؤساء البنوك المركزية المشاركين في منتدى البنك المركزي الأوروبي في سينترا بالبرتغال.
الجنيه الإسترليني يقترب من ذروته في ثلاث سنوات ونصف
سجل الجنيه الإسترليني مكاسب جديدة مع ارتفاعه بنسبة 0.3% إلى 1.3764 أمام الدولار، مقتربًا من أعلى مستوى له في ثلاث سنوات ونصف الذي لامسه الأسبوع الماضي. ومع ذلك، يواجه الجنيه تحديات داخلية.
ضغوط على الحكومة البريطانية
أظهرت بيانات صادرة عن مقرض الرهن العقاري نيشنوايد أن أسعار المنازل في المملكة المتحدة انخفضت بنسبة 0.8% في يونيو، وهو أكبر تراجع شهري منذ أكثر من عامين وأكبر من المتوقع.
سياسيًا، يواجه رئيس الوزراء كير ستارمر تحديًا من نواب حزبه بسبب إصلاحات الرعاية الاجتماعية، ما أجبر حكومته على تقديم تنازلات بلغت قيمتها نحو 4 مليارات جنيه إسترليني لتمرير مشروع القانون.
ومع ذلك، لا يزال إقراره النهائي غير مضمون، ما يثير مخاوف من المزيد من التنازلات في ظل قيود مالية ضيقة، وهو ما قد يضغط على الإسترليني وسندات الخزانة البريطانية.
الين الياباني يستفيد من الطلب على الملاذات الآمنة
في آسيا، انخفض الدولار أمام الين الياباني بنسبة 0.7% إلى 143.06، مع استفادة العملة اليابانية من تدفقات المستثمرين الباحثين عن الأصول الآمنة. تصاعد هذا الطلب بعد أن شن الرئيس ترامب هجومًا كلاميًا ضد طوكيو، متهمًا إياها بعدم الرغبة في شراء الأرز الأمريكي، وملمحًا إلى إمكانية إنهاء محادثات التجارة مع اليابان.
موقف الحكومة اليابانية
أعلن المسؤولون اليابانيون يوم الثلاثاء أنهم لا يزالون ملتزمين بالسعي لاتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة، لكنهم أكدوا في الوقت نفسه أنهم لن يتنازلوا عن حماية قطاعهم الزراعي الحيوي كجزء من أي صفقة.
اليوان الصيني مستقر وسط بيانات إيجابية
سجّل اليوان الصيني ارتفاعاً جديداً اليوم الثلاثاء مواصلاً مكاسبه التي استمرت على مدى شهرين متتاليين، ليصل إلى أعلى مستوى له في ثمانية أشهر مقابل الدولار، الذي تعرض لضغوط بفعل القلق من مشروع قانون الضرائب والإنفاق الذي يدفع به الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ويأتي هذا الارتفاع مدعوماً بمؤشرات على تراجع حدة التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وهو ما عزّز ثقة الأسواق بقدرة بكين على الحفاظ على استقرار سعر الصرف في وجه الضغوط العالمية، خاصة في ظل اتساع الفجوة بين العوائد في الصين والولايات المتحدة، واستمرار الضغوط الانكماشية داخلياً، وهو ما لا يدعم صعوداً قوياً ومفرطاً للعملة الصينية.
وخلال التعاملات الصباحية، ارتفع اليوان في السوق الداخلية إلى 7.1538 مقابل الدولار، وهو أقوى مستوى له منذ 8 نوفمبر تشرين الثاني 2024، قبل أن يتراجع بشكل طفيف إلى 7.1625 بحلول الساعة 04:07 بتوقيت غرينتش، أما اليوان المتداول في الأسواق الخارجية، فبلغ 7.1579 مقابل الدولار.
ورغم هذا الارتفاع، أفاد متعاملون بأن البنوك الكبرى المملوكة للدولة تدخلت في السوق الفورية لشراء الدولار، في محاولة واضحة للحد من مكاسب العملة المحلية والحفاظ على استقرارها، وهي سياسة تتبعها السلطات الصينية لتفادي تقلبات مفرطة قد تؤثر سلبًا على الصادرات.
وقال كريستوفر وونغ، محلل استراتيجيات العملات في بنك «أو سي بي سي»، إن صانعي السياسات في الصين يرجّح أن يستمروا في تحديد سعر الدولار يوان بوتيرة مدروسة لضمان الاستقرار، محذّراً من أن ارتفاع اليوان بسرعة قد يدفع المصدّرين إلى التخلص من احتياطياتهم الدولارية، ما يؤدي إلى دوامة من التقلبات غير المرغوب بها.
حدّد بنك الشعب الصيني سعر الوسط الرسمي عند 7.1534 للدولار قبل افتتاح السوق، وهو الأعلى منذ نوفمبر تشرين الثاني 2024، لكنه جاء أضعف بـ25 نقطة أساس من تقديرات وكالة رويترز البالغة 7.1509 للدولار.
نظرة مستقبلية وخلاصة
تظل توقعات السوق حذرة ومتقلبة، حيث يتابع المستثمرون عن كثب التطورات السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا. التغيرات المحتملة في السياسات النقدية، والتوترات الجيوسياسية، واتفاقيات التجارة، كلها عوامل قد تؤثر بشكل جوهري على اتجاهات أسواق العملات العالمية في الفترة المقبلة.
يبرز تراجع الدولار الأمريكي إلى أدنى مستوياته منذ سنوات كتعبير عن مزيج معقد من الضغوط الاقتصادية والسياسية.
من المتوقع أن يظل الدولار تحت ضغط إذا تأكدت التوقعات بخفض أسعار الفائدة، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية بشأن إدارة المالية العامة، وتزايد المنافسة من عملات رئيسية أخرى مثل اليورو والين والجنيه الإسترليني. في المقابل، ستظل الأنظار معلقة على البيانات الاقتصادية المقبلة والتطورات الجيوسياسية لتحديد المسار المستقبلي للعملات العالمية.
